الفوتوغراف المفاهيمي والمُمَسرح في تجربة كريم خلف

محمد حنون

يقوم المصور الفوتوغرافي الفلسطيني الشاب، كريم خلف، بالعمل على مشروعه البصري بدأب وحماسة، حيث وجد لنفسه ثيمة بصرية عمل من خلالها على تقديم أعمال بصرية مفاهيمية، مستخدما مجسمات معدة لهذه الأعمال.
يقوم خلف منذ مدة بتصوير حالة القمر في مرحلة البدر، مستغلا سطوعه، واضعا هذه المجسمات على بقعة ضمن مسافة محسوبة، منتجا بذلك عملا بصريا جميلا، ولكنه يفتقر للتعريف والتصنيف، لتقديمه بشكل يمنح المتلقي هامشا للاحتفاء بهذا العمل في سياق فهم واضح له. ففي صورته الأخيرة، التي نشرها على صفحته في وسيلة التواصل الاجتماعي (الفيسبوك)، وهي صورة لذئب يعوي على تلة مرتفعة، ومن خلفه يشع القمر في حالة البدر، ما يمنح الذئب إعتاما، يُسمى في التصوير الفوتوغرافي بالـ»سيليويت»، لم يقدم كريم خلف العمل بالطريقة الاحترافية والشفافة للمتلقي، حيث جعل الأمر قائما بوصفه عملا واقعيا وحقيقيا، سواء من خلال ما كتبه كعنوان للعمل، قائلا بأن الصورة هي صورة واحدة، وغير مدمجة وبدون إدخال أكثر من تعريض في بعضهما بعضا، وهي مقدمة مضللة في ظاهرها، قد لا يكون المصور قد قصد بها التضليل، ودون أن يشير كريم إلى حقيقة الأمر بكلمة واحدة. حين شاهدت الصورة وبمجرد رؤيتي للذئب، أدركت فورا أنه ليس جزءا أصيلا من الصورة، وليس جزءا من واقع الصورة؛ لكونه من أشهر الذئاب المستخدمة في عالم التصميم، من حيث الشكل والوقفة والأبعاد، ومن هذا الإدراك قمت بتكبير الصورة لأجد أن أطراف الذئب تحمل ملامح غير طبيعية، تشبه إلى حد كبير ما يمكن أن نراه في الدمج الرقمي على برنامج الفوتوشوب، نتيجة لسقوط ضوء القمر على حواف حادة، وليس ذلك التأثير لو أنه سقط على جسد حقيقي لذئب بكل ما يغطيه من شعر، حيث أن للضوء سلوك يختلف من سطح إلى آخر، ولكن بعد التدقيق أكثر ومتابعة صفحة المصور، تبين لي بأن المجسم هو مجسم حقيقي موضوع على الصخرة، وهو ما أدركته قبل أن يعلن المصور عن الأمر. كانت قراءتي الأولى للكيفية التي تواجد بها هذا الذئب في الصورة خاطئة، ولكنه ليس مهما في هذا السياق إن كان التدخل البشري في صنع الصورة تدخلا رقميا، وهو ما ظننته في أول الأمر بسبب شكل الحواف والمناطق المتطابقة بين الذئب في الصورة التي للمصور كريم، وبين صورة الذئب الأصلية التي لم يكن لديّ شك بأنها المصدر الأصلي للعمل، أو إذا كانت ممسرحة على أرض الواقع، المهم هو أن يتم تقديم العمل والإعلان عن هذا التدخل بشكل واضح يحترم المتلقي، لتكون ردة فعله تجاه العمل وتقديره للعمل موجها بشكل صحيح وضمن فهم حقيقي له، حيث كانت كل ردود الأفعال من قبل المتابعين، بسبب طريقة تقديم الصورة التي كانت مضللة، وربما عن دون قصد ولكن كان لها هذا الوقع وهذه النتائج عند المتلقي، حيث تعامل الجميع مع العمل على أنه حقيقي بكل مكوناته، دون أدنى توضيح من مبدع العمل.
في المشاريع البصرية التي تعتمد على الكاميرا، وعلى الصورة كمادة أساسية لها،
سواء كان ذلك من خلال التقنيات الرقمية أو من خلال مسرحة المشهد، أي من خلال إنتاج الصورة إخراجيا، يعلن الفنانون قبل كل شيء عن هذه المسألة بوضوح، حتى لا يكون هناك تضليل للمتلقي، سواء كان متعمدا أو غير ذلك، حتى لو كان العمل نفسه سيفصح عن حقيقته، وفي الوقت نفسه يكون التعريف لمثل هذا الفن هو تعريف واضح، إما كفن بصري مفاهيمي، أو كفن بصري رمزي، أو كفن ممسرح. أو كفن إعادة
إنتاج لأعمال فوتوغرافية تاريخية، كما سأقدم مثالا على ذلك، ولكن ليس بأي حال
من الأحوال الادعاء بأنها صور فوتوغرافية بالمفهوم الواقعي، إذ أن الفوتوغراف هو فن الواقع بالدرجة الأولى، وفي حال قام الفوتوغرافي بإدخال أي عنصر ليس أصيلا إلى داخل الصورة، وليس موجودا بشكله الطبيعي في الواقع، فعندئذ تنتفي عن الصورة صفة الفوتوغراف بالمفهوم والتعريف الكلاسيكيين.
أعاد الفوتوغرافيان السويسريان، جوياكيم كورتيس وأدريان سوندريجار،
إنتاج صور فوتوغرافية أيقونية تاريخية في محترفهما الفوتوغرافي، حيث
قاما بوضع مجسمات صنعت باليد لتكون مطابقة للعناصر الموجودة في الصور
الفوتوغرافية الحقيقية، أعلنا منذ اللحظة الأولى عن الصور بأنها ليست صورا حقيقية وبإنها إعادة لإنتاج صور فوتوغرافية تاريخية، على الرغم من أن الأمر كان سيعرف
سواء أعلنا أم لم يعلنا، لأن الصور المعاد إنتاجها مشهورة جدا، مثل الصورة
الأيقونية لدبابات ساحة تيا نانمن، للمصور ستيوارت فرانكلين، وهي صورة التقطت في الصين، حيث وقف متظاهر أمام الدبابات، ويحمل بين يديه كيس بقالة، ولكنه كان من الأخلاقي أن يتم الإعلان عن ماهية المشروع، وفي الوقت نفسه قدم الفوتوغرافيان الأعمال بوصفها أعمالا بصرية لإعادة إنتاج صور فوتوغرافية أيقونية، ومن حيث التعريف لم يقوما بتقديمها كتصوير فوتوغرافي بتعريفه كفن الواقع، وإنما بوصف الكاميرا أداة لتنفيذ هذه الأعمال البصرية فوتوغرافيا، للخروج بنتيجة أعمال بصرية «ريكرييشون». هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن هذا النوع من الفن الذي ينتج من خلال الكاميرا، ليس فنا له جمالياته وخصوصيته، على العكس، فلا أحد ضد الفنون الرقمية والمفاهيمية، أو تلك التي تحمل فكرة مغايرة، والتي تنتج من خلال الكاميرا كأداة، ومن خلال الصورة كمادة خام وأساسية للعمل، ولكن التعريفات هنا ضرورية. فالمصور كريم خلف لديه خيال وتصورات مفاهيمية ذات دلالات ومفردات بصرية خاصة، ولها تداعيات إيجابية من حيث المبنى والمعنى، وهو ما يعكس قدرته على التخطيط والإعداد لمثل هذه الأعمال، من حيث المعرفة لمسارات القمر، والبحث عن المكان الصحيح للتواجد في الوقت المناسب ومن المسافة المناسبة، ولكنها بلا منهجية واضحة، سواء فكرية أو مفاهيمية أو معرفية ذهنية، ولا أقول تقنية، حيث أثبت كريم خلف مقدرته على الإمساك بزمام كاميرته.
يقول الفيلسوف والناقد الفرنسي، رولان بارت، في كتابه، «الغرفة المضيئة»، وهو أحد الكتب المفصلية التي تناولت الفوتوغراف في ثمانينيات القرن المنصرم، في تعريف فن الفوتوغراف وتياراته ومدارسه، في سياق تأملات فوتوغرافية في غاية البساطة وبعيدا عن التعقيد: «لا توجد صورة دون مغامرة»، قد تبدو العبارة بسيطة في ظاهرها، حيث أنه أمر يعرفه الجميع دون الحاجة لمن يقولها لهم، ولكن أهميتها تتأتى من حيث أنها وضعت في سياق عام لتعريف فن الفوتوغراف وتياراته، من ناحية معرفية وفنية، وقبل كل شيء من ناحية كنه الصورة الفوتوغرافية وتعريفاتها. فالمغامرة تعني بالضرورة الخروج بعمل فوتوغرافي حقيقي، وليس مختلقا، فلا مغامرة في تصوير صورة مختلقة أو ممسرحة، مهما كانت النتائج بصرية، ذلك في حال قُدِّمَ العمل هذا كصورة واقعية، حيث أن الصورة الفوتوغرافية بتعريفها الكلاسيكي هي الصورة التي تعكس الواقع على حقيقته دون رتوش أو إضافات من أي نوع.
أما إذا كان الفوتوغراف المقدم، كفن فوتوغرافي مفاهيمي أو رمزي ممسرح، سواء من حيث الإضافة عليه رقميا أو تقنيا أو من حيث الواقع في الحالة هذه، فهو لم يعد يصنف ضمن التعريف الكلاسيكي للصورة الفوتوغرافية الواقعية، ولكنه يبقى كفن له جمالياته وخصوصيتــــــه البصرية، وهو فن جميل، ولكن بتعريف آخر حتى لو كانت أداة تنفيذه هي الكاميرا وخامته الأساسية الصورة، وإذا لم يتم تعريف الأمر بشكل واضح في وطننا العربي، حيث أنه معرف ومتفق عليه في الغرب، لاختلط عندئذ عندنا الحابل بالنابل، والأمور لدينا لا تحتمل المزيد من العبثية في الفوتوغراف.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى