فنان الميكانيكية الوحشية غيلبيرت بيار يعرض في باريس

عمار المأمون

لا يمكن تصنيف الفنان الفرنسي غيلبيرت بيار ضمن شكل فنيّ واحد، فهو مخرج وشاعر وممثل وفنان تشكيلي، بل أقرب لحالة فنيّة تتجاوز ضوابط النوع، إذ يستفيد من أيّ وسيط فني يراه ملائماً من أجل نقل رؤيته والتعبير عن ذاته، كما تنعكس خبراته في المعرض المستضاف صالة سانت بيار للفنون في باريس بعنوان “إلكترو-ميكانيك”، وفيه مجموعة من أعماله الغرائبيّة التي يمتد تاريخ “تصنيع” أوّلها إلى الستينات من القرن العشرين وآخرها إلى هذا العام.

المعرض يأخذنا في رحلة وحشيّة ضمن عوالم تتداخل فيها الآلة ومخلفاتها مع التجربة الإنسانيّة، لنقف فاغري الأفواه أمام البدائيّة التي تهزأ من عالمنا “المتحضر”.

الأعمال التي نراها في المعرض أشبه بـ”بارودي” ساخر من اليوتوبيا المعاصرة التي أسّس لها رأس المال منذ بدايات الحداثة، فالتقنيات والآلات فائقة الجودة والكمال المحيطة بنا غزت أدقّ تفاصيل حياتنا، مع ذلك لا نعرف خباياها، هي مغلقة أمامنا ولا نعلم كيف تعمل، تصنعها آلات دقيقة ومبرمجة ثانية بثانية، لتدخلنا في عالم متماسكٍ تكنولوجيٍ، في حين أن بيار يقوم بالعكس، يعيد بناء هذه العوالم بصورة بدائيّة، مستخدماً مخلفات الآلات تلك، وهي قطع من خردة وقمامة يجمعها ويعيد هيكلتها أمامنا بصورة مكشوفة، نرى خيوطها ومحركاتها متراكبة بصورة شبه بدائية، وإثر لمسة من كهرباء، تُبثّ الحياة فيها، لنرى تمايُل الراقصة الشرقيّة وراقصة الفلامنيكو، ثم شبّاك غواصة تعبر أمامه أسماك من علب سردين، نراها لاحقاً تسبح في حوجلة للزينة، محاكاة ساخرة تهزأ من كمال العالم حولنا، عبر إنتاج نسخة مضادة له، هشّة لا تحتمل اللمس، ومهددة بالانهيار في أيّ لحظة، انقطاع خيط واحد قد يؤدي لانهيار العمل، كعالمنا الآن، عطل خفي لا نعلم مصدره قد يتركنا مشلولين ضمن هذه اليوتوبيا الصناعيّة.

جهود الفنان الفرنسي تتجاوز فكرة “المصنوع سابقاً” وعرضه بوصفه انتهاكا للمؤسسة الفنية وقواعدها، بل هو يعيد إحياء المُستَهلك، منتهي الصلاحيّة والمرفوض والمهمّش من المجتمع الآن، إذ يعيد بناءه بما يشبه عملية خلق بدائيّة غير متقنة لكنّها فعالة، محدودة الحركة بوصفها امتداداً مؤقتاً عبر الزمن، هي تمثّل لحظة واحدة تُعاد وتُكرر، هذه الحركة محكومة بالتدخل البشري، سواء عبر توصيل التيار الكهربائي أو عبر الفضاء المتخيّل الذي تستعيده لدى المشاهد، فهي ذات حضور شرطيّ، كيانات رمزية تكتسب معناها من تلقّيها، فالمشاهد هو من يكمل الفراغات والقطع الناقصة، مُفعّلاً التناص مع تجربته الشخصية على تنوّعها.

الأعمال على وحشيتها تحمل موضوعات من الطفولة، تستدعي بدائية تلك المرحلة وبساطتها، سذاجتها التي لم “تتمأسس” بعد، بوصف “الطفولة” خارج التصنيف المقنن كونها قائمة على اللعب، فالشروط لم توضع بعد، كحالة الدمية التي نراها وتدعونا للعب معها، فهي على بدائيتها تحرك فينا رغبة الاكتشاف إثر الدهشة التي تثيرها في المخيلة، فبيار يستخدم أدوات بسيطة لخلق المتعة، خيوط وحبال ودمى مقطّعة، تتجمع تاركة لنا حرية تأمل آلية عملها، تقنيات بسيطة تدعونا للتفكير باحتمال أنّ ما نراه حولنا الآن ليس إلا آلات، وبالإمكان أن نصنعها نحن كأفراد إن أردنا، هي ليست حكراً على ماكينة رأس المال، إذ نرى على الجدران في المعرض مخططات وسكيتشات للأعمال وكيفية هندستها، بيار لا يدّعي أنه صانع عجائب أو خيال فائق، بل الأمر دعوة للعب بتقنياته البدائيّة.

تحضر السياسة بمفهومها الواسع (الثقافي-الدولي) في أعمال بيار، إذ نرى عملاً يعود تاريخه إلى العام 1991 بعنوان “لعبة الورق”، يمثل صورة لصدام حسين وجورج بوش الأب يلعبان الورق بحركة دوريّة، كما نرى قطعة جلد خروف وجدها الفنان مرميّة في الطريق معلقة كعمل فنيّ، إلى جانبها يطرح بيار تساؤلا فحواه “من هو الفنان؟”، مستعيداً معضلة نقديّة معاصرة، ما الذي يعطي للفن قيمته، المؤسسة ومكان العرض؟ أم العمل نفسه وجوهره الفنّي؟

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى