أمجد ناصر.. الخروج من الشعر إلى.. التمرّد

أنطون أبو زيد

لئن كانت الكتابات السردية هذه الأيام متّجهة صوب استثمار الأحداث الجارية في ظهرانينا، ولا سيّما الإرهاب وما نجم عنه، والفاعلين الرئيسيين فيه، والمؤامرات التي تُحاك باسمه وغيرها من الوقائع التي هزّت أركان الحياة الاجتماعية في العديد من البلدان العربية والعالم الثالث، فإنّ تجربة الشاعر أمجد ناصر الأردني ترسم سبيلاً سردياً مختلفاً يكاد يكون لصيقاً بتجربته الشعرية وبعالمه الحميم، أو بأبعد تقدير، يستعير من عالمه السيري بعضاً من الخيوط لينمّي بها شبه عالمه الروائي، في روايته الجديدة «هنا الوردة».

أمجد ناصر، الشاعر الأردني الذي صدر له العديد من المجموعات الشعرية، يباشر اليوم مسارًا في الكتابة الروائية يحاكي فيه مسار شعراء سبقوه إلى التنويع والتجريب والإضافة إلى نوع الرواية.
تتشكّل «هنا الوردة» (الصادرة عن «دار الآداب»)، من حيث حبكتها القصصية، من أربعة فصول غير متجانسة حجماً، ومن تمهيد يسبق الفصل الأول يضاعف الغموض فيها والالتباس بدلاً من أن يبدّدهما لدى القارئ والرقيب والمجتمع في ما خصّ الشخصية (يونس الخطاط) والمسألة التي شغلته وكادت تودي به. عنيت التمرّد على الحاكم (الحفيد) الذي انفرد بحكم «الحامية» ومحاولة اغتياله الفاشلة، يدفعه إليها «التنظيم».
إذاً، يشكّل الفصل الأول من الرواية التعريف بالشخصيات الرئيسية التي سوف تنخرط في الأحداث المتوالية والمطّردة عنفاً، وإن ببطء أحياناً؛ فيقع القارئ على يونس الخطاط السابق الذكر، الذي يبدو شاباً في العشرين من عمره، منصرفاً إلى الشعر، تياهاً به، حالمًا، حبيسَ غرفة في فندق «في مدينة لا يعرف فيها أحداً»، هو أقرب ما يكون إلى شخصية نكرة، ولكنها تطلب «تغيير العالم»، وهي صفة تكاد تنطبق على مَن تبنّى النظرية الماركسية أو الأحزاب الثورية، ويقيم في مدينة «الحامية» (لا اسم علم لهذه المدينة)، وهو سليل عائلة توارثت حرفة الخطّ أباً عن جد، واسمه يونس عدنان أحمد الكامل نور الدين الخطاط، وبها عُرفت في الحامية كلّها. وانطلاقاً من هذه النقطة المتناهية الصغر، تنداح الأوصاف وتظهر الشخصيات المتصلة بالشخصية المحورية بصلة تتفاوت أهمية وحسماً في مصيره؛ فنتعرّف الى رسول «التنظيم» مروان الذي تأخّر في الوصول، و «رلى» حبيبته الأولى والتي تعرّف إليها في المكتبة العامة فأُعجب بها، وتقدّم منها وأقرّ لها بحبه لها. ثمّ تتوالى الشخصيات، مثل الأمين العام الذي أوكل إليه بمهمة غاية في السرّية، من خلال رسالة دسّها يونس في حذائه، وشخصية الرفيق هاني وابراهيم الحنّاوي صديقه ومشاركه الإعجاب بشعراء وبأذواق شعرية معينة، وغيرهم.
التأزم
أما الفصل الثاني فقد شكّل إطلاقاً للتأزّم، بأن أدخل الروائي شخصيته المحورية في سياق مطاردة (محتملة) من قبل رجال الحاكم (الحفيد) ممن بثّوا في كلّ مفرق ومحطّة، وكان خوفه يتعاظم من اكتشاف هؤلاء الرسالة التي لا يعرف مضمونها وإنما يدرك، في قرارة نفسه، أنّ الرسالة ترتبط بأمر تنظيمي ينبغي له العمل بموجبه. ويروح الكاتب ينمّي الأجواء الصراعية، أو التي تستدعي التصدّي للحاكم «الحفيد»، فيبيّن، بلغته الإيديولوجية، المثالب التي تستدعي التمرّد على ذلك الحاكم. وعندئذ، يكشف (الراوي – يونس) عن نيّته القيام بمحاولة اغتيال «الحفيد» في عملية أسماها «الذئب»، بعد أن اطّلع عليها وأدرك المكانة التي أولاه إياها الأمين العام للتنظيم.
وبذا يكون الفصل الثالث مقتصراً على محاولة الاغتيال الفاشلة التي قام بها يونس وبعض من رفاق التنظيم ممن أوكلت اليهم هذه المهمة، وكيف أنّ التنظيم قرّر أن يبعد يونس وبقية الأعضاء الذين قاموا بهذه المحاولة، ولكن بعد أن يبعث برسالة الى حبيبته «رلى» يسوّغ لها فيها سبب ابتعاده عنها.
على أن الفصل الرابع، وهو كناية عن 17 صفحة يمثل الوضع النهائي في الحبكة القصصية، إذ يكشف عن مصير مطلق النار الثاني، بخروجه «من الغيبوبة»، وهروب يونس ورفيقه الى خارج «الحامية»، وإحراق خلف الرسالة التي كلّفه يونس بإبلاغها الى رلى.
يتبين للناظر الى رواية أمجد ناصر هذه، الآتي:
أولاً ـ يستثمر الروائي المسائل المتصلة بالشعر ـ وهو ديدنه الأول ـ والمتصلة بالسياسة ومعرفته بها معرفة موسوعية وواقعية من أجل أن يبني عالمه الروائي، ولا سيّما في الفصل الأول. ولربما كان اتّكاؤه الطويل على هذين المصدرين سبباً في بطء الجريان السردي الذي كان يؤمل انخراط الأحداث فيه.
ثانياً ـ اعتماد الروائي لغة سردية ووصفية مطعّمة بالانطباعية الطفيفة. ما يحسب له، باعتبار أن الانتقائية اللفظية والصورية البيانية، وإن وجب أن تكون شديدة الاقتصاد ودالة، فإنّ لها بالغ الأثر جمالياً في متابعة السرد والتفاعل الحي معه.
ثالثاً ـ اعتماد الروائي استراتيجية الفضح المثمرة، سواء في تبيان خواء السياسة الإيديولوجية وعماها حيال الواقع وحقيقته، وفي تبيان هشاشة السياسة التقليدية، بل الدهرية، ونظرتها إلى الفرد والعشيرة والناس على حدّ سواء، نظرة استعلاء واحتقار وريبة.
وأياً تكن هذه المظاهر اللافتة، فإنهّ انفتح لأمجد وناصر باب الى رحاب النثر، بالرواية ذات الوقع المعاصر من دون أن يغادر متردّماً.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى