قصة حب تقهر المؤامرة

سليم البيك

الالتباس في حكاية الفيلم وسرده عبر المونتاج، يَظهر،بدايةً،
في العنوان، فهو بلغته الأصلية «أغاسي»، أي شابّة، ولدينا بطلتان في الفيلم، شابتان، يمكن أن تكون أي منهما الشخصية الرئيسية في الحكاية، وهذا هو الالتباس، إذ ظهر على كل من النسختين الإنكليزية والفرنسية للفيلم، ففي الأولى كان «الخادمة» موحياً بأن الفيلم يسرد أساساً حكاية واحدة من الشابتين، وفي الثانية، النسخة الفرنسية، كان «مادموزيل»، أي سيدتها، موحياً بأنّ الفيلم يسرد حكاية الشابة الأخرى.
تبدأ بشابة اسمها سوك-هي، نشّالة محترفة، تتواطأ مع محتال سيدّعي بأنّه كونت، سليل عائلة نبيلة يابانية ومعلّم رسم، يتواطآن للإيقاع بوريثة يابانية اسمها هيدكو، تسكن قصراً يحدّ أماكن تواجدها، فلا تخرج خلف حدود حديقته. ثرية جداً، مدللة جداً، قارئة نهمة، تبدو ساذجة جداً، تحتاج خادمة شخصية، عرف المحتال بذلك وبدأ بتنفيذ خطّته.
أمّا الخطة فهي أن تتقدّم الخادمة لتعمل عندها، ثم يتقدّم هو، ويحاول إيقاعها في حبّه بتمهيد من الخادمة، ليستولي على ثروتها الهائلة، هذا ما يُخطّطان له إنّما، وهذا حال السينما، لا تتطوّر الأحداث بما خُطّط لها. فيتناوب «التّواطؤ» بين الشخصيات الثلاث، لينتهي في النصف الثاني من الفيلم تواطؤاً بين الفتاتين للتخلص من المحتال، ومن العمّ.
ولا يكون كل ذلك بمعزل عن شخصيّة رابعة في الفيلم المقل جداً بشخصياته، فهنالك عمّ الوريثة بطبعه المريض، المهووس بالجنس، فلديه تشكيلة واسعة من المقتنيات الإيروتيكية، كتباً وتماثيل ورسومات. وهو المضطرب والتسلّطي الذي يعامل وريثته الوحيدة والرّقيقة بمنطق عبودي. فقد تعوّد، مثلاً، على أن يجعلها تقرأ مقاطع من كتاب ماركيز دو ساد أمام ضيوفه من الرّجال، وهي مقاطع إيروتيكيّة ساديّة (من اسم الكاتب الفرنسي أتت التسمية) فيها من التعذيب بقدر ما فيها من الجنس، تقرأها بأداء مسرحي إيمائي، مرتدية ملابس الغيشا اليابانية. ولهذا العم دوره لا في تطوّر الأحداث بقدر ما هو في تصوير الحالة التي تعيشها الوريثة، ما يجعلها تتمرّد عليها وتشارك في صنع الأحداث، إنّما برويّة.
الحكاية مليئة بالتلاعبات والاحتيالات والكذب بين الشخصيات الثلاث. وتدور في كوريا الجنوبية إبّان الاستعمار الياباني، لكنّها مأخوذة عن رواية للبريطانية سارة ووترز وتدورأحداثها في الفترة الفيكتوريّة في بريطانيا، أي ما يقارب 100 عام قبل زمن الأحداث في الفيلم، فنقل الحكاية زمانياً ومكانياً بهذا الشكل كان نقطة إضافية تُحسب للفيلم.
لكن ليست الحكاية ما يميّز الفيلم، وهو برأينا من أفضل الأفلام الآسيوية التي خرجت هذا العام. إنّما الجماليات البصرية من ناحية، وأسلوب السّرد من ناحية أخرى، وهذه الأخيرة هي اللافتة أكثر من غيرها في الفيلم.
أما بخصوص الجماليات، فهي متعلّقة بالقصر وديكوره وحديقته، بأسلوب التصوير، والإطارات، وبزوايا التصوير، وهذه الأخيرة مرتبطة بأسلوب السرد، بالإضاءات المتفاوتة داخل الغرف وخارجها، بالرّهافة التي تُصوَّر بها الفتاتان، المادموزيل وخادمتها، إضافة إلى مَشاهد ممارسة الحب بينهما، مذكّرة بفيلم «حياة أديل» للفرنسي كيشيش، بمعنى تصوير كامل للممارسة المثليّة، وبزمن غير قصير، دون أن تفقد المَشاهد حسيتها العالية.
أمّا بخصوص السرد، وهو هنا عملُ المونتاج في الفيلم، أي التقطيع بين المَشاهد الذي جاء تقطيعاً لسرد راويتين للحكاية: رواية على لسان الخادمة وأخرى على لسان السيدة. فالفيلم مكون من ثلاثة فصول: الراوية في الأول هي الخادمة وفي الثاني هي السيدة، أما الثالث فيكمل الحكاية التي حكتها الفتاتان. وأسلوب السرد المتعدّد للرواية ذاتها يذكّر بفيلم أساسي للياباني أكيرا كوروساواي هو «راشومون» (1950)، أحد أفضل الأفلام لأحد أفضل المخرجين في تاريخ السينما.
في الفصل الأول، هنالك شخصية رئيسية واحدة هي الخادمة، أما السيدة فتكون ثانوية، تحكي الخادمة ما تراه وما تعرفه، بصوتها، بحدود تمنع المُشاهد من إدراك كل ما يحصل، بوجهة نظر شخصية أتت حتى من خلال زوايا التصوير. في الفصل الثاني، هنالك شخصية رئيسية واحدة هي السيدة، المادموزيل، أما الخادمة فتكون شخصية ثانوية، وهنا تكتمل معرفتنا، وكذلك إدراكنا، بما كان يحصل، ناقصاً، في رواية الخادمة. فالسيّدة تروي الأحداث ذاتها، بصوتها، منذ وصول الخادمة إلى البيت حتى تشابك التواطؤات وكذب الشخصيات الثلاث على بعضها.
وكذلك أتى ذلك بصرياً، من خلال زاوية التصوير، أي ليس سردياً وحسب، كلٌّ من حيث ما يعرفه. فالعديد من مَشاهد الفصل الأوّل تكرّرت في الفصل الثاني إنّما براوية أخرى وأساساً بزوايا تصوير أخرى، فوجهة النظر في كل من الروايتين كانت مجسّدة بالكلمات وبالصور. وهذا ما جعل الخط الحكائي في الفيلم دائرياً، إذ تعود الأحداث ذاتها، إنّما من زوايا مختلفة. وهذا، سينمائياً، عمل المونتاج. وهو، هنا، مثال ممتاز على أهمّية المونتاج في صناعة الفيلم، في أن يخرج الفيلم بصورته النهائية، فالحكايات يمكن أن تتشابه إنّما الأسلوب في السرد والتقطيع هو الذي يميّز عملاً عن آخر، والأسلوب هنا كان قبل أي شيء تقطيع الحكاية إلى نسختين تكملان بعضهما بعضا، واحدة ترويها الخادمة والأخرى ترويها السيّدة.
في الفيلم أكثر من ذلك للحديث عنه، فهو إيروتيكي حسّي بامتياز، ولا يقتصر ذلك على مشاهد ممارسة الحب بين الفتاتين، بل في بعض ما تحكيانه، لنفسيهما أو لبعضهما، وتحديداً في مشهد تمسّد فيه الخادمة ضرس سيّدتها باصبعها بمادة لتسكّن وجعه، مشهد هادئ وممتد ومركّز على وجهي الفتاتين وعينيهما المشعّتان رغبةً.
والفيلم كما هو حسّي وعارٍ بالمعنى الجمالي للكلمة، هو كذلك في بعض مشاهده وحشي ودموي بالمعنى الواقعي (رِياليست) للكلمة، وذلك حين يعرف العمّ بخطة الرّجل المحتال للاستيلاء على ثروته، فيخطفه ويعذّبه بقطع أصابعه واحداً تلو الآخر. في الوقت الذي تسود الجماليات البصرية المكان الذي يجمع الفتاتين، يسود الدّخان والعتمة المكان الذي يجمع الرجلين، وهو قبوٌ أسفل القصر لطالما خوّف به العمّ وريثته حين كانت طفلة.
الفيلم، لكل هذه الأسباب، ولسبب أخير هو هرب الفتاتين من الرجلين والقصر، وهي المرّة الأولى التي تخرج فيها السيدة من حدود الحديقة، لكل هذه الأسباب ولغيرها يمكن اعتبار الفيلم نسويّاً بالمعنى الفنّي الجمالي، حيث ترافقَ حضور الرجلين فيه بالاحتيال والظلم، وحضور الفتاتين فيه بالسذاجة والعاطفة. العنف اللفظي والجسدي رافق الرجلين في وقت رافق الفتاتين الحب والصداقة والتواطؤ للتخلص من كل ما هو بشع وشرير.
الفيلم الذي تُصوَّر فيه المشاعر والممارسات في أقصى حالاتها، المشارك في مهرجان «كان» الأخير والمعروض حالياً في الصالات الفرنسية، هو من إخراج الكوري الجنوبي باكتشاوك، صاحب أفلام أخرى لافتة كـ«عطش» في 2009 الذي نال «جائزة لجنة التحكيم» في المهرجان ذاته آنذاك، و«أولدبوي» في 2003 الذي نال «الجائزة الكبرى» في «كان» كذلك، آنذاك، وغيرها من الأفلام التي جعلت من المخرج واحداً من الأسماء السينمائية البارزة في آسيا. وهذا الفيلم، «مادموزيل»، إضافة نوعية لسيرته السينمائية.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى