رجة فكرية
فاضل الكواكبي
إذا شغلني صادق جلال العظم، فإني سأقف موقفاً يؤزمني أخلاقياً، لأن من عاداتنا كعرب ومشرقيين أن نترحم على كل شخص مهما كان، وأن لا نذكر مساوئه عند رحيله، وأنا لا أتحدث عن مساوئ فردية للعظم، كوني لا أعرفه جيداً بشكل شخصي، إذ إنني التقيتُ به مرةً واحدة، بل أتكلم عنه كمثقف سوري، فعلى الرغم مما قيل كثيراً أنه ينتمي إلى الأرستقراطية الدمشقية العريقة، إلا أن مفهوم الأرستقراطية هو مفهوم ملتبس، فمن لم يمارس العلم في القرن التاسع عشر والتعليم والسياسة في القرن العشرين لا يمكن أن ينسب إلى النبلاء الحقيقيين، ومن مارس فقط الإقطاع والزراعة وظلم الفلاحين واستغلالهم ليس أرستقراطياً بالمفهوم اليساري.
طبعاً لا أنسب العظم إلى عائلته بل أنسبه إلى ماركسيته التي لم أكن متفقاً معها، لأني لم أكن يوماً ماركسياً أرثوذكسياً فأنا يساريٌ قومي، ولكن الماركسية الأرثوذكسية تحتوي على نصوص مهمة جداً، تبدأ مع بليخانوف ولا تنتهي عند اسم أو فكرة معينة، لكن أي يساري حقيقي وطني وعاشق للمعرفة كان لا بدّ له أن يتأثر بكتابات العظم كونه أعاد إنتاج الماركسية الأرثوذكسية بعمق معرفي عالٍ وراهنية مرتفعة.
الفضائحية المعرفية
كانت نصوص العظم أحياناً تميل نحو الفضائحية المعرفية، وهذا مطلوب، ولكنه ليس كافيا ولا أظن أن نصوص ياسين الحافظ والياس مرقص أقل أهمية، بل إنني أعتقد أن أفكارهما أهم بكثير في السياق الماركسي المعرفي، لذلك تحرر كل من مرقص والحافظ من التزام حرفية النصوص الأصلية للماركسية وأبدعوا فكرياً، فيما كان إبداع (صادق) اجتماعياً أكثر منه فكرياً، لذلك تراني مضطرا لأقول إنني لم أكن قادراً عبر كل أشكال التحليل بما فيه التحليل النفسي الفرويدي والأنثربولوجي، أن أفهم موقفه من الحرب السورية التي تحول فيها إلى أقصى اليمين الطائفي. رحمه الله.
لقد وضع (العظم) كتباً أثارت قضايا إشكالية ومهمة وهي جريئة جداً، وفيها استخدام دقيق وذكي للأصول الماركسية، وكان آخر كتبه التي دافع فيها بشراسة عن هذه الأصول (دفاعاً عن المادية التاريخية) يتناقض بشدة مع المنطق الطائفي الذي لا يقبل به حتى أنصار اليمين العلماني، وكنت دائماً كقومي أميل إلى الناصرية أقول إنه لا يوجد شيء اسمه (أهل السنة والجماعة) التي تندرج ضمن تيار إسلامي وسلفي إخواني بأشكاله المتعددة، لأفاجأ بماركسي أرثوذكسي هو حفيد بليخانوف استخدم هذا المصطلح، وهذا إن دل على شيء يدل على شتات معرفي هائل.
صحيح أن حسين مروة حاول أن يؤول الدين تأويلاً ماركسياً؛ (نجح أم لم ينجح هذا موضوع آخر) فلقد حاول المفكر اللبناني هذه المحاولة ضمن محاولات الماركسيين لكسب الرأي العام، لكن العظم لا يمكنه لا قومياً ولا تاريخياً ولا إنسانياً الانتقال للحديث الطائفي، عبر البحث عن رد فعل على ما يحدث في بلاده، هذا يشبه تماماً شخصاً كان ضد ستالين فصار نازياً!
التواري خلف الدين
لا يمكن أن توصل أفكارك للرأي العام بأن تتوارى خلف الدين، ولهذا برأيي كان مرقص والحافظ وبالطبع جورج طرابيشي أكثر انسجاماً مع أنفسهم من العظم في هذا السياق، سواء من حيث إبداعهم المعرفي أو انفتاحهم على التيارات الماركسية غير التقليدية، فمع أن العظم كان موسوعياً ومطلعاً على هذه التيارات، لكنه انجرف نحو اليمين الديني.
العظم كان مفكراً شعبياً، هذا صحيح، وهذه من ميزاته كونه انتقل من مستوى فلسفي إلى الكتابة الاجتماعية التي تنفتح على النقد الأدبي والتاريخ، لكن هناك التباسا له علاقة بالموضة الفكرية التي غطت على نتاجات العظم الأكثر عمقاً، كما غطت على أفكار باحثين آخرين، لكن حتى ردود الفعل التي بدرت من العظم كان من الممكن تكوينها بالمزيد من الذهاب يساراً، وليس بالانتقال من اليسار إلى أقصى اليمين. المعرفة اليسارية العميقة تعطيك بعداً فكرياً للتعمق في فهم الأزمات مهما كانت هذه الأزمات، لكن يبقى العظم مهما كون نصوصه بنت مرحلة اتصفت بالانفتاح والجرأة والحداثة، حيث بزغ في الستينيات، وقدم كتابه اللافت «نقد الفكر الديني» الذي جاء في أواخر الستينيات، وشكل بالنسبة إلى المثقفين رجّة فكرية بين أوساط النخب العربية، كونه أسس لمرحلة جديدة في تفكيك الخطاب الديني، مما جعل مؤلفات العظم بنت مرحلتها وهي ممتعة برغم صعوبة المواضيع المطروحة فيها، خصوصاً لذة النص التي أتقنها صاحب «ذهنية التحريم» كون كتاباته انتمت بأسلوبها السلس للمدرسة الأنغلوسكسونية، وهي كتابات لا تفقد عمقها مع الأيام، ويمكن إتمام هذه النصوص في السنوات القادمة، والعمل على تطويرها، فنحن اليوم نعاني من نقص هائل في الكتابات الماركسية واليسارية العربية العميقة، وكان آخر من خسرناه في هذا الحقل هو ناهض حتر مع أنه كاتب اجتماعي سياسي، أكثر منه كاتبا فكريا.
جلال العظم لم يكن منتمٍيا سياسياً ولا تابعا لأي كتلة أو حزب، وانكفاء اليسار في العالم العربي كان يجب أن يكون محرضاً لديه للعمل أكثر فأكثر، والكتابة وتحليل الواقع القائم لتفادي تفاقم الأزمات الاجتماعية، لكن المفكر السوري الراحل ـ من أسف ـ لم يعمل على استنهاض عدة فكرية جديدة لمواجهة ما يحدث من انقلابات جذرية في المجتمعات العربية.
(السفير)