البطالة والمهرجانات الفنية
نصير شمة
نسمع بين حين وآخر عن دول في مطاف ما يسمى بدول العالم الأول تعاني من بطالة كبيرة، ونسمع في الوقت نفسه أن هذه الدول تقيم مهرجانات فنية تحت رعاية المحافظات في كافة مناطقها وبلا رعاة في أغلب الأحيان، سوى الراعي الرسمي الحكومي.
ومن هذه المهرجانات ما يكون مدعوما برعاة أقوياء، وأسمع من يتساءل: كيف تقيم هذه الدولة مهرجانا فنيا ضخما، في حين يعاني شعبها من البطالة، وباللهجة العراقية أسمعهم يقولون «بطرانين»، والحقيقة هي غير ذلك تماما، فهم ليسوا كذلك أبدا، بل هم يفكرون ضمن استراتيجية تحريك الاقتصاد، ورفع مستويات العيش في بلادهم وتقنين البطالة، لكن كيف هذا؟
في الحقيقة عندما نفكر بمهرجان فني ضخم، فإننا سنفكر أولا بالمطربين والمطربات والموسيقيين، وهم ليسوا وحدهم كما يتخيل الكثير من الناس، فهناك مهندسو الصوت والإضاءة وعمال القاعات وعمال شباك التذاكر والمشتغلين على الإعلانات والمطابع التي تطبع كل ما يتعلق بالمهرجان من بوسترات أو معلقات أو الى ما هنالك من احتياجات تبعا للمهرجان نفسه.
في المقابل هناك من يعملون على التسويق، تعليق البوسترات أحيانا، تنظيم دخول وخروج الناس من المسارح، تنظيف القاعات و..و..، بمعنى أنها عجلة لا تتوقف أبدا، أي أن كل مهرجان يستهلك على الأقل في العمل 500 شخص، وهذا في أقل تقدير، أي أن هناك 500 أسرة تنال مدخولا وتعتاش، بالإضافة إلى ما يستهلكه المهرجان في تحريكه لمصانع مختلفة مثل المطابع التي تتحرك عجلاتها وتطبع الخ. وهناك شباك التذاكر الذي يأخذ من القادر ماله ويرفه عنه ويعطيه للعامل الذي يحتاج هذا المبلغ ليعيل أسرته. وهذا ليس نهاية مطاف المهرجان بل أوله، ففي انطلاقته تتحرك الفنادق والمطارات وحجوز الطائرات، وبشكل عام تتحرك عجلة السياحة، حيث يأتي الكثير من الأشخاص من بلدان مختلفة للسياحة ويختارون أوقات سياحتهم بين الأوقات التي تزدهر فيها المهرجانات.
المهرجانات الفنية ليست ترفا إطلاقا، بل حاجة ضرورية في الحياة، فهي بالإضافة لتحريكها عجلة الاقتصاد، تكسر رتابة الحياة التي تكاد ترهق بعض الأشخاص بالمسؤوليات الحياتية المختلفة، وعندما يتنفسون قليلا مبتعدين عن الضغوطات اليومية ينتجون بشكل أفضل.
ولنأتي إلى الثقافة نفسها والفن والموسيقى ودورها في المجتمعات، خصوصا مجتمعاتنا التي تعاني كثيرا ليس من البطالة فحسب، بل أيضا من الأفكار المتطرفة التي تجد مستنقعها في رؤوس خلت من الثقافة، فالثقافة بشكل عام لا تقبل التطرف، بل على العكس لأنها عدوة التطرف الأولى، كما أن البطالة نفسها تقف أحيانا في صف التطرف، فالذي يعاني من البطالة أيضا شخص متاح لدى من يستهدفون الأشخاص للقيام بأعمال متطرفة، أو إرهابية.
كنت أتحدث مع صديق في إحدى الدول التي فتحت أبواب اللجوء أمام الهاربين من الإرهاب والموت في بلدانهم، وسألته كيف تستطيع دولة استقبال كل هذا الكم من اللاجئين وإعاشتهم وتسكينهم في منازل وتحمل نفقات علاجهم وحياتهم، قال لي هؤلاء اللاجئين تسدد لهم الدولة مبلغا صغيرا يكفيهم للعيش من غير عوز، لكن هذا المبلغ لا يكفي لإرساله خارج الدولة، لأنه سيجد الممرات التي سيصرف فيها، وهذه الممرات تعود كلها إلى خزانة الدولة، لأنها أولا ستقنن البطالة فاللاجئ سيستأجر منزلا، وسيشتري أثاثا لبيته وسيصرف على طعامه، أي أنه سيدير عجلة الاقتصاد بشكل كامل، ثم أن أغلب اللاجئين من الشباب الذين لن يكتفوا بما تدفعه لهم الدولة للعيش، فيبدأون البحث عن عمل، خصوصا في الدول التي تشيخ لأن سكانها تقل معدلات إنجابهم للاطفال عن الدول النامية، ولأن أغلب شبابها يتخصصون تخصصات عليا، بالتالي تصبح الوظائف الأخرى شاغرة، خصوصا طبقة العمال والموظفين بشكل عام، هؤلاء الشباب هم ثروة اقتصاد المستقبل.
عندما فكرت بكلام صديقي أدركت أن هناك فارقا كبيرا في استراتيجية التفكير التي تحكم مجتمعاتنا ومجتمعاتهم، فنحن نتهم تحريك عجلة الاقتصاد «بالبطر» في حين يعتبرونها هم أساسا لا بد منه، بل حاجة رئيسية تماما مثل الحاجة لبناء المدارس والجامعات، فكلها قنوات تفضي إلى بعضها بعضا، وليس من الممكن أن نبني مدرسة ثم نغلق على الطالب سبل المعرفة خارج أسوار المدرسة وخارج منهاجها.علينا أن نبدأ بالتفكير المنطقي، ولا نكتفي به، بل علينا أن نطلع أبناء بلداننا على خطط عملنا، ولماذا نقيم مهرجانا مثلا، في حين هناك ناس لا تجد ما تأكله وقد تقف خارج أبواب المسرح منتظرة خروج الجمهور طمعا في قليل من النقود تسد الرمق. على شعبنا أن يدرك أن البطالة لن تنتهي بمجرد وجود الوظائف، بل أن هذه الوظائف بحاجة لتحريك، فبناء فندق يحتاج الى عمال، والعمال لن يجدوا من يمنحهم الوظيفة أن لم يأت السائح، والسائح لن يأتي إلى بلد يعاني ركودا ثقافيا.
بناء استراتيجية اقتصادية من الأولويات التي يجب أن نقف عندها، ومن الأولويات أيضا الالتفات إلى دعم المهرجانات الثقافية والفنية بكافة السبل لأن باستطاعتها أن تكون حجرا رئيسيا في حرب البطالة.
(القدس العربي)