الهرطوقي: تجريم التفكير

كه يلان محمد
يقولُ المفكرُ المصري سلامة موسى: «لم نَسمع قط أن إنساناً قد ضحى بنفسه طوعاً من أجل ما يرغب فيه من الماديات. لكن عرفنا كثيراً من الذين قد جادوا بأنفسهم في سبيل ما اقتنعوا به من الأفكار» بالطبع لولا هذه الجراءة والقدرة على التضحية لأجل أفكار جديدة لما تقدم الأنسانُ وما تجاوز مرحلة طفولة العقل.

تدور رواية “الهرطوقي” من تأليف الكاتب الإسباني مجيل ديليبس الصادرة عن دار التنوير حول ما شهدته البلدان الأوروبية من زلزال فكري وصراع بين التقليدين والمجددين عقب إعلان مارتن لوثر لأطروحته التي علقها على جدار كنيسة نوتبرغ في عام 1517.

هنا يلتقي عنصر التخييل الروائي مع الحقائق التاريخية. حيث يصادف القارىء وجود أسماء ومعلومات غزيزة مرفقة بالهوامش التوضيحية. وبذلك يكتسب وعياً بهذا المُنْعَطَف التاريخي. دون أن يأتي هذا الأهتمام بالمرجعية التاريخية على حساب أبعاد جمالية في الخطاب الروائي رغم وجود شخصيات عديدة في هذا العمل الروائي لكن أدوارها تظهر متكاملةً. ويجمعها خيط الأحداث المتعاقبة إذ تكون عملية غياب أو ظهور أي شخصية موظفةً بدقة لمساندة الشخصية الأساسية وهي ثيبريانو ثاليدو الذي تتقاطع مراحلُ من حياته مع حيثيات نشوء جمعية أخوية تابعة لمارتن لوثر.

• رحلة العودة

لا تختلف إفتتاحية هذه الرواية عن أي عمل كلاسيكي حيث يتبنى الكاتب أُسلوبَ الوصف المفصل لرسم صورة سفينة تنطلق من ميناء مدينة هامبورج ويتحول المشهد الطبيعي إلى خلفية لهذه الصورة الوصفية.

مع بدء الحوار بين الشخصيات الموجودة على ظهر السفينة يتبين بأن ثيمة العمل الأساسية، هي صراع بين مذهبين أحدهما في طور الإمتداد والآخر هو مذهب السلطة الحاكمة. كما يدرك المتلقي بأن مدينة بلد الوليد الإسبانية هي بؤرة مكانية للصراع الذي تركزت عليه الرواية وتتوارد التلميحات عن شخصيات تاريخية معروفة في الحوار المتبادل بين القبطان جريجيور وثيبريانو مع مداخلات متقطعة لإيسيدوروتيريا.

ولا تتضح وظيفة هذه الشخصيات الواردة أسماؤها إلا بمتابعة تسلسل الأحداث كما أن الملاحظات المكتوبة في الهامش تعتبر مفتاحاً لمعرفة بعض العبارات المتداولة في المحافل المسيحية مثل (الليمبو) أو أسماء الكتب التي ألفها مارتن لوثر أو أحد أتباعه مثل “درب الآلام”.

يُذكر أن معظم شخصيات الرواية معروضة أسماؤهما وأدوارها في الإفتتاحية. إذ يستعيدها الكاتبُ على مسرحِ الأحداث بالتوالي بإيقاع يبلور تصوراً واضحاً لطبيعة هذا العمل. بجانب ذلك يكشف المتلقي بأن ثبيريانو ثاليدو قد سافر إلى ألمانيا للتواصل مع فليب ملانتشون الذي قاد الحركة الإصلاحية بعد لوثر.

كما حمل معه الكتب الجديدة إلى أسبانيا، هنا نفهم بأن ألمانيا قد صارت مركزاً فكريا أنذاك لاسيما عقب اكتشاف الطباعة إذ نسمع على لسان إحدى الشخصيات بأنَّ مارتن لوثر هو ابن المطبعة.

كان ثبيريانو مكلفاً بهذه الزيارة من قبل الدكتور كاثيا.

• ولادة منذرة

يبدأُ الفصل الأول على منوال الأُسلوب الذي اتبعه الكاتب في الإفتتاحية. حيث يصفُ مداخل مدينة بلد الوليد ويذكر عدد سكانها في هذا الوقت. ومن ثُمَّ يتركزُ السردُ على أسرة برناردو سالثيدو حيث نتعرف على أن برناردو هو أحدُ الأقطاعيين في مدينة بلد الوليد يشتغلُ عنده المستأجرون والوكلاء لإدارة أموره التجارية والزراعية.

مضت على ارتباطه بدونيا كاتالينا عشر سنوات دون أن تنجب الأخيرة لذلك يعتبرُ دون برناردو أن ما يراه من أعراض الولادة على وجه زوجته مُعْجزةُ فعلاً لا تخلو عملية الولادة العسيرة من الغرابة فيبصرُ الوليدُ النور في توقيت متزامن مع إعلان مارتن لوثر لإنشقاقه عن الخط البابوي.

كما أن الأم تُفارق الحياة بعد أيام فيصبح ثبيريانو يتيم الأُمِ. فتحل المُرضِعةُ مينرفينا ذات خمسة عشر عاماً مكان الأم فيكون الرضيع أكثرُ إلتصاقاً بها وعندما يكبر يتحاشى النظر إلى والده لأنَّ الأخير لا يكف عن تأنيبه معتبراً إياه سبباً لرحيل زوجته. هكذا تتعهدُ مينرفينا بالطفل إلى أن يدخل مدرسة الأطفال اللقطاء.

هنا يمرُ ثيبريانو بتجربة جديدة إذ يكون بعيداً عن مينرفينا التي تحدت تحرشات الوالد ومضايقاته ولم تستسلم لإغراءاته. فدون بيرناردو يُمَثِلُ نموذجا لعقلية إقطاعية مُتخلفة وهو يتصور بأن سلطة الأموال تُبيحُ له امتلاك النساء كمحظيات تلبين رغباته. لذلك يتورط بعلاقة مع الفتاة بترا جريجوريو.

بالمقابل نَجِدُ أخاه إجانثيو نقضياً له، فالأخير يشتغل قاضيا في مَحكمةِ بلد الوليد وإشْتَهَرتْ مكتبتهُ في المدينة بأنها تَضُمُ خمسمئة وثلاثة وأربعين مُجلداً.

عقب مخالطة ثبريانو بمَناخ المدرسة وابتعاده عن البيت ينسى ملامح والده إلى أن يلتقى خبر وفاته إثر إصابته بمرض الطاعون الذي لا تنسحب أذياله من المدينة إلا بعد سقوط عدد كبير من الضحايا.

هنا تزداد فعاليات ثبريانو مع رفاقه بالمدرسة لإغاثة المُصابين كما يستشف وجود خلاف بين أستاذته على خلفية مواقفهم حول لوثر.

بعد غياب الأب يَدْخُلُ ثبريانو مرحلة أخرى إذ يكون عمه أجاثيو وصياً عليه كما تتغير مشاعره حيال مرضعته فيميلُ أكثر إلى الحب الجسدي ويبوح بذلك إلى كاهن إعترافه. ستختفي مينرفينا عقب إكتشاف علاقتهما المُحرمة.

• النبيل المتمرد

لا ينقطع السردُ عن عرض حياة ثبيريانو حيث يحوز على لقب النبيل ويشتهر بصناعة المِعْطَف من جلد الحيوانات البرية. تقوده طبيعة عمله إلى أمكنة كثيرة. إلى أن يتعرف على أحد الفلاحين في البارامبو وتعجبه ابنته التي عُرفت بملكة البارامبو تيودميرا فيختارها زوجة له مُتجاهلاً اعتراض عمه. لكن بعد تأخر الولادةِ تتهالك الحياة الزوجية وتقضي ملكة البارامبو أيامها الأخيرة في المَصحَةِ إلى أن ترحل تاركة شعوراً بالذنب في اعماق ثبيريانو وهو من جانبه يتخلى عن نصف ممتلكاته لِيُكفر عن قصوره بحق تيودميرا.

تتخذُ حياة ثبيريانو منحى جديداً ويكون أشدَ حساسية في تصوراته إذ يبداُ بقراءة. الكتب كما يسر بهواجسه لبدور كاثياو يأخذ منه كتاب “نعمة المسيح” كما ينزل عليه كلام كاثيا كالصاعقة عندما يقول له بأن المُطهر لا وجود له وأن القُداس ليس ضرورياً ولا يوجد ما يلزم الإعتراف إلا للربَّ.

لكن يستوعب كل هذه الأفكار بعد استماعه الى تبريرات كارلوس سيسو لإلغاء هذه الطقوسات ويواصل الحضور في الإجتماعات كما يتكفل بطبع كتاب نعمة المسيح وتوزيعها على أنصار اللوثرية في كل المُقاطعات الأسبانية. وينبض قلبه بحب لآنا إنريكث.

هكذا يندمجُ النبيل المتمرد في جمعية الأخوة. وبذلك يعودُ الراوي إلى نقطة إنطلاق الرواية. وتكتملُ ملامح الشخصيات والغرض من الرحلة التي قام بها ثبيريانو وهو يبدي إستعداده لزيارة ألمانيا من خلال مهرب (إيتشارين).

• زمن المُلاحقات

من النادر جداً أن تجد روائيا يتمكن في حشد كل شخصيات روايته في الفصل الأخير مثل ميجيل ديليبس، ربما فرضت طبيعة عمله إتباع هذه الآلية. إضافة إلى ذلك فإن الطابع الدرامي يتصاعدُ خصوصاً بعد اكتشاف أمر الجمعية وإستنفار محكمة التفتيش لملاحقة الهراطقة، إذ يُعتقلُ ثبيريانو وهو على وشك مغادرة إسبانيا ويتم إقتياده إلى السجن الرهيب.

لعلَّ أجمل مشهد الرواية هو ما تحضر فيه مينرفينا عندما يكون ثبيريانو في طريقه إلى المحرقة. وهو الوحيد لا يثنيه كلام القساوسة ولا التعذيب أو إغراء بتخفيف العقوبة عن مبادئه. فيؤلمه مما يصله من أخبار عن حنث رفاقه بالقسم واعترافهم على البعض.

يُصنف هذا العمل ضمن الروايات التي تتناول صراع الأفكار ولا تكون قراءتها بدافع الحصول على المتعة الفنية فقط. بل لأخذ رؤرية حول مرحلة تاريخية أراد فيها الإنسان الخروج من طور القصور العقلي.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى