عبدالرزاق بوكبة كاتب يعرف من أين يبدأ ولا يعرف إلى أين ينتهي
عبد الواحد مفتاح
للكتابة بداياتها التي غالبا ما تكون غريبة ووليدة قصص أو مسارات تقود الذات إلى عوالم الكتابة. لكن الكاتب الجزائري عبدالرزاق بوكبة يقول “ما زلت أذكر بالحرارة والشغف نفسيهما أوّل مرة اكتشفت فيها جسدي، في قرية ذاب فيها الهلاليون والأمازيغ معًا، وأذكر أوّل رمضان صمته وأوّل ركعة ركعتها وأوّل كتاب قرأته وأوّل صفعة تلقيتها وأوّل مرّة ركبت فيها سيارة ثم قطارًا، لكنني لا أذكر السياقات الأولى للكتابة”. هو يرى أن المرّة الأولى التي نكتب فيها ليست هي العتبة الأولى التي نؤرّخ بها لذلك، إذ تسبقها مخاضات واعتمالات شبيهة بالسّحر، لا تدركها الذات الكاتبة ولا المحيطون بها.
خطوة حافية
ما يذكره ضيفنا هو أنه بدأ بنصوص كتبها باللهجة المحكية، تأثرًا بما كان يسمعه من قصائدَ شعبية في برنامج إذاعي، في قرية كان المذياع فيها النافذة الوحيدة على العالم، نهاية الثمانينات من القرن العشرين، ثم تخلّى عنها تمامًا، عند شروعه في الكتابة باللغة الفصحى، لأنه اعتقد حينها أن الكتابة بالمحكية مؤامرة على اللغة القومية، وهي مرحلة كان فيها خاضعًا لفكرة أن الكتابة رسالة أخلاقية بالدرجة الأولى.
لاحقًا انخرط بوكبة في تجربة شعرية لامس فيها روح الشعر شكلًا، لكنه لم يبرمج فيها نفسه ونصّه على السؤال الوجودي الذي يمنح الشعر عمقه، فقام بحرقها هي الأخرى، مباشرة بعد دخوله الفضاء العاصمي عام 2002، واحتكاكه بلحظة عراء وتشرّد، وضعته في مواجهة لغة وأسئلة مختلفتين، وهي التجربة التي أثمرت كتابه الأوّل “من دسّ خفّ سيبويه في الرّمل؟” المنشور عام 2004.
نسأل ضيفنا هنا إن كانت لحظة العراء والتشرّد تلك، هي ما جعل لغة الكتاب تقوم على الكسر والبتر وما يمكن أن نسمّيه الاعتداء على اللغة؟ ليجيب قائلا “سابقًا كانت علاقتي باللغة تقوم على اليقين، العشق، التماهي، التصديق، وهو ما جعلني خاضعًا لها، حتى أنني كنت أكتب حالتي الخاصّة جدًّا وفق ما تمليه هي. أمّا لحظة العراء التي عشتها في بدايات دخولي الجزائر العاصمة، فقد جعلت علاقتي باللغة تقوم على الصّراع، التحدّي، الرفض، الثورة، الرغبة في فرض الذات على حساب بلاغة ونحوٍ موروثين، يجعلاني أنظر إلى لحظتي بأعين ناس ماتوا، فكان علي أن أدسّ خفّ سيبويه في الرّمل، حتى يبقى حافيًا مثلي، كنت بحاجة إلى بلاغة حافية حتى تستطيع أن تستوعب عريي وتشرّدي وخوفي وجوعي، بصفتي ذاتًا جزائرية فتحت عينها داخل حرب أهلية كان الأخ يقتل فيها أخاه، إذ ليس منطقيًا أن أكتب لحظة مجنونة ببلاغة عاقلة”.
قدّم عبدالرزاق بوكبة قصصًا في “كفن للموت”، ترجمت مؤخرًا إلى اللغة الإنكليزية، لا نلمس فيها أسس كتابة القصة القصيرة التقليدية المعروفة، إذ لا تقدم حكاية بقدر ما تهدم أسس هذه الحكاية، وتنسج فوق أنقاضها جماليات جديدة كلها، يعلق الكاتب “القارئ يقوم بتغيير هاتفه الخلوي وسيارته أكثر من مرّة في العام، بحثًا عن خصائصَ جديدةٍ وأكثر عصرية، تجعل تلك الآلات والوسائط تحقق له المتعة والفائدة بوتيرة أسرع، كما أنه يفعل ذلك مع مسكنه وملبسه، إن لم يكن فعلًا فحلمًا على الأقل، ومن حقي أن أتعامل مع نصّي بالمنطلق نفسه، أعدّد وأجدّد وأحفر وأبني وأهدم، بحثًا عن أشكال كتابية مختلفة، دون الاهتمام بعدد من سيتفاعلون معها، تلك ليست وظيفتي، فأنا لا أكتب كي أصير نجمًا، بل لكي لا أصير حجرًا. ثم هل أتحمّل مسؤولية أن المنظومات التربوية والثقافية والإعلامية في الفضاء العربي، لم تجتهد، لارتباطها بالماضي، في تجديد الذائقة العامّة؟ هل أنا مطالب بأن أكتب وفق شروط الكتابة أم وفق شروط الذائقة السائدة؟”.
العفوية لا المسؤولية
بهذا نرى ضيفنا كاتبا دائم الإقامة على حدود الخطر، والسير على الحافة، حيث لم يخرج بعد عن مشغل التجريب، يقول ضيفنا عن منزلقات المغامرة “تعلّمت من فرس جدّي أنها لا تمنح صهوتها للجبان، وتعلّمت منذ صغري أن أهتمّ بالخطوة لا بطبيعة الطريق. أفقد مصداقيتي بصفتي كاتبًا، إذا جعلتني صعوبة الطريق أتراجع عن خيار السير فيه، فالإيمان بالخطوة شرط من شروط الوصول. يا إلهي.. لقد تحوّلتُ إلى واعظ (يضحك)، وهذا لا ينسجم مع خياراتي الإبداعية إطلاقًا”.
يتابع بوكبة “لا أكتب حتى أحصل على لقب أو جائزة أو منصب أو تمثيل ما أو أصنّف ضمن قائمة كتّاب البلد حتى، وهذا الخيار يمنحني حرية مطلقة في أن أكتب ما أشاء بالطريقة التي أشاء”. نسأل ضيفنا في أي من الفنون التعبيرية التي يجمع بينها يجد نفسه؟ ليجيبنا “زرت صديقًا في مدينة تلمسان يومًا، وأدخلني إلى حضيرة مركباته، فكانت الدراجة الهوائية والدراجة النارية والسيارة والشاحنة وأنماط أخرى، وأخبرني أنه يستعمل إحداها بناء على المزاج أو الحاجة، وهو يتمنّى لو يتاح له أن يركب مركبة فضائية، والحديث قياس على الأجناس الأدبية عندي”.
يضيف “أحيانا أكون مبرمجًا، من حيث مزاجي وحاجتي الوجودية للكتابة، على ومضة شعرية، ومرة على قصة قصيرة وأخرى على رواية أعرف كيف تبدأ، لكنني لا أعرف أين تنتهي. قد أستقرّ يومًا على جنس معيّن، لكنني اليوم مستمتع بهذا التعدّد الذي تعلّمته من تجاربَ وسياقاتٍ كثيرة في حياتي، منها بستان جدّتي مريم، كانت تضحك على جارتها التي تكتفي بغراسة البصل”.
المهمّ عند ضيفنا أن تكون الذات الكاتبة واعية بخياراتها، فقد سأل أكثر من شاعر ذهب إلى الرواية “أيّ جرح/ ثراء/ تحوّل وقع لك حتى فعلت ذلك؟”، فلم يجد لديه ما عدا أنه خضع لسلطة هذا الجنس في سوق القراءة والجوائز، وهذا وجه من أوجه التجارة لا الكتابة، حسب رأيه. أنجزت عدة دراسات ومقالات عن رصيد بوكبة الإبداعي، منها مؤلف الباحث محمد عروس عن كتابه “من دسّ خفّ سيبويه في الرّمل؟”، وما كتبه الناقد لونيس بن علي “تفاحة البربري”.
كما فاز بعدد محمود من الجوائز، منها “جائزة بيروت 39” عن كتابه “أجنحة لمزاج الذّئب الأبيض”، لذا نسأل ضيفنا إن كان كاتبا نال حقه من النقد، ليجيب بأنه مستمتع بالكتابة عن تجارب غيره من الجيّدين، أكثر من استمتاعه بقراءة ما يكتبه الآخرون عنه، ذلك أنه من النوع الذي يفرغ ذاته في نصوصه، فلا يبقى من انتفاخاتها شيء بعد ذلك، وهو معطى يجعله يتعامل مع ما يقرأه عنه بشيء من الخوف أكثر مما يفرحه أو يبرمجه على الغرور، لأنه يضعه داخل الإحساس بمسؤولية أكبر، فيما هو يحبّ أن يكون كاتبًا عفويًا لا مسؤولًا.
(العرب)