«العبقري» للبريطاني مايكل غروندج: فيلم بلا روح لحياة حقيقية
عبدالله الساورة
من الصعب أن تصنع فيلما يحوم حول الأدب، للعالم الداخلي والإبداعي لنص يكون ظله السيرة الذاتية لكاتب كبير وحول عوالم النشر وتاريخ الأدب. بمعنى أن الفيلم يقدم صنفا من العلاقة الجامعة بين الناشر والكاتب وإعادة تشكيل جذري للمشهد الأدبي في أمريكا.
يحكي فيلم «العبقري» للمخرج مايكل غروندج (114 دقيقة/2016) وهو إنتاج مشترك إنكليزي أمريكي، عن شخصيتين مختلفتين، ماكسويل بيركنز (كولين فيرث) يمتاز بالهدوء، سخي له عمل قار وله عادات روتينية، متزوج وله خمس بنات. وشخصية توماس وولف (جود لو) شاب عصبي بموهبة كبيرة، في حوارات مستمرة وغاضب، يعيش تعاسة في شقة كئيبة مع امرأة محبطة تركت عائلتها، وله أفق كبير في عالم الأدب. يقرر ماكسويل القيام بنشر أول كتاب للكاتب الشاب وولف، ولكن بداية عليه القيام بعمل كبير: التصحيح، التلميع، التبسيط، ويعود السبب في ذلك إلى أن المخطوط يضم خمسة آلاف صفحة. يتميز الفيلم بطريقة بسيطة وجميلة بعيدة عن أي تنميق عن عالم الأدب والنشر في بداية الثلاثينيات من القرن العشرين.
الفيلم والحكاية الحقيقية
كاتب السيناريو جون لوغان صاحب الأفلام الشهيرة (المصارع، المخترع هوغو، سكايفل) اعتمد في السيناريو والحوار على كتاب أ. سكوت بيرغ، الذي يحكي القصة الحقيقية التي وقعت بين الكاتب والناشر. وبالتالي تمكن من تسليط الضوء على مواهب توماس وولف (1900/1938) الكاتب الشاب الأمريكي الذي مات قبل الأوان في السابعة والثلاثين بسبب مرض عضال. جاء التركيز بالفيلم على شخصية ماكسويل بيركنز. وهو تكريم لأولئك الأشخاص الذين يشتغلون بصمت وأناة بعيدا عن الأضواء، في حين يتم التعامل مع «العبقري» في كثير من الأحيان بأنانية واستهتار واتباع هوى المؤلف. في النهاية، ناشر الكتاب ينتهي به المطاف إلى إنسان بسيط جدا، في الفيلم لا شيء من الخطب العصامية أو الندم، لأنه في الحقيقة يحكي عن صداقة بين رجلين مختلفين وقادرين على التعاطف والاستماع إلى بعضهما بعضا وفهم واستنطاق ما وراء الصفحات المطبوعة.
أجواء أزمة الثلاثينيات
في الفيلم تحضر مدينة نيويورك بحلة أخرى في أجواء حالمة وسط الاكتئاب والحزن المسيطر على الوجوه والقسمات والأزمة الاقتصادية التي تلوح بظلالها في الأفق، مع سيطرة للون الرمادي والأزرق الذي يغطي المدينة ومحيطها دون الحديث عن الأزمة الاقتصادية بشكل مباشر.
وينطلق مدير التصوير بن دافيس من نقطة مركزية، حيث يبرز الأزمة الاقتصادية دون الغوص في أسبابها، فيظهر عدد كبير من شخصيات تلك الفترة، وتسابق الصحف على الأخبار العاجلة والمعلومات، وتسلل الكامير ببطء إلى المكاتب المغبرة والوجوه البائسة لآلات الكتابة، وشوارع لا تنبض بالحياة دون أن تخفي بريق الأدب ومتعته مثل أحجار كريمة، بقدرة كبيرة في رسم معالم الواقع البائس انطلاقا من نظرة ورؤى جمالية.
يضعنا المخرج في قلب بداية الثلاثينيات بديكور ينسجم كثيرا مع مرحلة الأزمة الاقتصادية، سواء على مستوى الملابس، الحزن المرسوم على القسمات والكآبة والغمة المسيطرة على الجو العام. برهن المخرج على قدرته الكبيرة في إدارة الممثلين لأنه في الأصل ممثل، حيث يسيطر الناشر بنوع من الأبوية في توجيه الكاتب. من جانب آخر أدت (نيكول كيدمان) دورا كبيرا ومقنعا، دون تكلف كعاشقة للكاتب، وهي تعاني إحباطا نفسيا شديدا، رغم الظروف الصعبة بمساعدته في تقديم أدب جميل للقراء وإيمانها الراسخ بدور الكاتب داخل المجتمع لإحداث التغيير المنشود وسط الأزمة التي تعصف بالبلاد. هناك أيضا الممثلة (لاورا ليني) التي جسدت دور الزوجة السخية والمريضة لماكسويل في رعايتها لخمسة أبناء بينما الزوج منشغل دائما خارج المنزل.
الرؤية النقدية
يضع المخرج خلفه قائمة من فيلموغرافية طويلة، تناولت موضوع الكاتب، كما فيلم «كبوتي» عن الكاتب ترومان كابوتي وفيلم «الجبهة» لوودي آلان وفيلم «منتصف الليل في باريس» للمخرج نفسه، وفيلم «العثور على فوريستر» وفيلم «تبني» من بطولة نيكولاس كيدج، ثم فيلم «الساعات» عن الكاتبة فرجينيا وولف من أداء نيكول كيدمان، وفيلم «شكسبير عاشقا» وفيلم «الكاتب الشبح»، وهي أفلام عن الأدب والكتاب وبخلفيات ثقافية وسياسية تمتح من السيرة الذاتية للكتاب، لكن ما الإضافة النوعية التي قدمها فيلم «ناشر الكتب»؟.
في الفيلم يمكن إبداء مجموعة من الملاحظات الأساسية فمن الجانب التقني والكتابة الفيلمية لا تشوبه شائبة، ولكنْ هناك اضطراب عاطفي أو بعبارة أوضح عاطفة باردة لم يستطع المخرج تجاوزها، كذلك يحسب على الفيلم استخدام كليشهات مثل الكاتب المعذب ومبالغة النجم جود لو في أدائه بنوع من الهيمنة على إطار الشاشة.
ما يعاب على الفيلم تقديمه لشخصيات حقيقية مثيرة للاهتمام خفضها إلى مستوى كليشيهات، ما جعلها أقل سطوعا، أقل روعة وأقل كاريزمية مما كان ينبغي أن تكون.. وبهذا المعنى يكون الفيلم قد سقط في فخ الفيلم التجاري، بحثا عن جمهور آخر من المتعطشين لهذه النوعية من الأفلام من الكتاب والصحافيين والقراء وهواة السينما لفيلم ذي حمولة ثقافية لكاتب في حجم وولف اختطفته المنية وهو في ريعان الشباب. كما أصبح حضور نجوم الفيلم أكثر من الفكرة المعبر عنها. ما يهــــم في السينما هو كيف نقدم الأشياء بعيدا عن القول أن سينما الأدب صعبة وأن أفـــــلام «شغف الحـــــروف» تحــــتاج للكثير من العمل والجهد، نظرا لتعقيدات النــــص وحاجياته وتعقيدات الكاتب والمرحلة نفسها.. لكن كاتب السيناريو رغم تمرسه الســــينمائي قدم فيلما مبهرا ولكن بدون روح.
(القدس العربي)