هلاوس الرواية… تجريب أم تخريب ؟
محمد الأمين بحري
لقد أضحت اللغة الإنشائية المشحونة بالهلاوس الشعرية علامة مسجلة تطبع عديد النصوص الروائية المعاصرة، حين طغى هذيان الخواطر والبوح الاستبطاني على الملمح السردي للنصوص، بناءً وموضوعاً وفكراً.
هذا ما لاحظته حين بادرني أحد القراء وهو يحمل رواية لكاتبة ناشئة فقال: «عدا التأنق في شعرية اللغة، وسلاسة الصيغ الإنشائية، وتهاويم الخواطر. لم أعرف ماذا أرادت الكاتبة أن تقول في روايتها، فقد كانت شعرية اللغة كل شيء، أما القصة فقد كانت ضئيلة وهامشية، قياساً مع تبئير اللغة المتمركزة حول ذاتها وليس حول موضوعها، فهل يمكن أن نسمي مثل هذه الكتابات الإنشائية روايات؟». لا شك أن مثل هذا القارئ في العالم العربي الكثير، ومثل هذه الكاتبة أيضاً الكثير. غير أن التاريخ الأدبي يشهد على وجود أنماط عديدة من الخطابات الاستبطانية والذهنية في نصوص روائية سابقة، لكنها عكس نصوصنا المعاصرة، ترسم ملامح السرد وتشيد فكره وموضوعه منذ بواكيره الأولى لدى أبوليوس «الحمار الذهبي» وسيرفانتس «دون كيشوت»، مروراُ بجيل دوستويفسكي وهمنغواي، وصولاً إلى نجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف في الساحة العربية. فكيف تكون الهلاوس بانية في رواية وهادمة في أخرى؟
كلامولوجيا الخواطر ضد البراديغم السردي
يعتبر الفعل الإنشائي للخواطر الشعرية بطبيعته الاستغراقية ذات المسار العمودي والخطاب الغائر في أعماق الشخصية فعلاً معاكساً للبراديغم السردي، وقاطعاً لحبل سيرورته مؤقتاً، نظراً للاشتغال العمودي المتزامن للإنشائية الشعرية، بخلاف المنحى الأفقي المتعاقب لفعل القص الذي يتتبع أطوار الرحلة السردية وتداعياتها، لأن خطاب الخواطر الإنشائية غير محسوب نصياً (كسرد) ولكنه محسوب تقنياً كلما اتسع المتن الإنشائي على حساب استكمال الرحلة السردية المتعاقبة في ذهن القارئ، الذي تهتز علاقته بالنص عند كل فعل انقطاع للحبل السردي. ومهما كانت القيمة الجمالية للنص الخواطري الإنشائي، فإنها تبقيه في مدار الكلامولوجيا المتمركزة غائياً ومقصدياً على لغة الخطاب دون خطاب اللغة، حين يحجب التقاطبات السردية بين بنيات النص وموضعه. الشيء الذي أوصلنا إلى هذه الأنيميا السردية التي لا تسمح لبنيات الرواية بالظهور إلا كأرخبيل من الجزر العائمة وسط بحر من الإنشاء، يمكن للقارئ المتمرس أن يدرك من خلاله تلك المسافة الفاصلة بين الكلامولوجيا الفضفاضة المنفلتة أمامه وبين الخطوط السردية الواضحة للروايات التي طالعها من قبل، حيث لم تنقطع لا أثناء قراءته ولا في ذهنه وذاكرته بعد إتمام القراءة.
خصوصية الخطاب الاستبطاني
في الرواية الذهنية
لطالما كان خطاب الهلاوس السردية (وليس الإنشائية) قريناً مع بواكير الفن الروائي، ولعل أول الهذائين كان دون كيشوت دي لامانشا (سيرفانتس)، لتتلوه شخصيات لا حصر لها، مع روايات دوستويفسكي وستاندال وهمنغواي «الشيخ والبحر» غربياً، وشخصيات نجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف «حين تركنا الجسر». وإميل حبيبي «المتشائل» وغسان كنفاني عربياً، حيث تتضح في أمثال هذه النصوص قصدية الخطاب الاستبطاني في تعالقه مع المستويين الداخلي والخارجي للخطاب، بحيث يستكمل الكاتب – باطنيا- ما تبقي من خريطة السرد المرسومة خارج الشخصية، وهو ما سنسميه «تناغم الكاميرا الداخلية مع الكاميرا الخارجية» وكلاهما صادر عن راوٍ مدمج (إحدى شخصيات الرواية) أو مستقل (سارد عليم غير مشارك في الأحداث) ما يصنع دينامية يكون فيها استغوار العوالم الداخلية للشخصية مكملاً لخطاب استظهار الأحداث خارجها. وقد اختلف النقاد في تسمية هذا النمط الخطابي في الرواية، حيث أطلقوا عليه اصطلاحات مثل: الواقعية الجديدة (صبري حافظ)، والرواية الدرامية (نبيل راغب) والرواية الفلسفية (جورج طرابيشي)، وأخيراً الرواية الذهنية (مصطفى التواتي) وهي أقرب التسميات (في اعتقادي) لهذا النمط من الروايات التي تتحول فيها قضايا الحياة إلى موضوعات فكرية في أذهان الأبطال.
النموذج السردي للهلاوس
(دوستويفسكي / نجيب محفوظ)
من أوضح النماذج الخطابية للهلاوس البانية للمقولة السردية، رواية «الإخوة كارامازوف» لدوستويفسكي، حين نصغي لحديث ديمتري (ميتيا) وهو يفضي بهلاوسه لأخيه إليوشا الذي لم يكن في هذه الرواية سوى وعاء لكل أسرار إخوته ومفرغة لهمومهم. يقول ديمتري هاذياً: «أريد أن أبدأ.. أن أبدأ اعترافي… إنني أهذر ولا أهرف… إنني أسير في الليل دون أن أعرف أأنا أغوص في الوحل والعار؟ أم أنا أتقدم نحو الضياء والفرح.. حين كان يتفق لي أن أغوص إلى القرارة من هوة الدناءة والعهر.. كنت في كل مرة أعيــــد تلك القصــــيدة التي تتحدث عن سيريس وعن الإنسان، فهل أصلحني ذلك؟ كلا ثم كلا لأنني كارامازوف» (الرواية ج1).
ليس كارامازوف هنا لقباً لعائلة ممزقة بقدر ما هو ركام ذهني لإخفاقات الماضي الإقطاعي التي تلاحق الحاضر والمستقبل البورجوازي في روسيا وتخنقه، ليتحول ماضي المجتمع إلى قدر مشؤوم لا منجاة من لعنته. والأزمة الاقتصادية إلى أزمة نفسية في اللاوعي الجمعي، الذي عبر عنه دوستويفسكي روائياً فكان إليوشا هنا مدخنة المنزل الكبير التي تنفث منها جميع المواقد المتأججة دخانها الأسود، لهذا كان البوح هنا ضرورة، تتكئ عليها الرواية كي تبني المواقف والحالات السردية المعبرة عن رؤية للعالم.
وفي الرواية الذهنية العربية سنجد المثال الأوضح في «اللص والكلاب» (بوليسية- ذهنية) لنجيب محفوظ، حيث تفتتح بهلاوس البطل سعيد مهران، التي تبدو آتية من الأزل «آن للغضب أن ينفجر وأن يحرق، وللخونة أن ييأسوا حتى الموت… سأنقضّ في الوقت المناسب كالقدر»، وتختتم بهلاوس تبدو ممتدة إلى الأبد «وأخيرا جاءت الكلاب وانقطع الأمل… لا أمل في الهروب من الظلام بالجري في الظلام، نجا الأوغاد وحياتك عبث». وفي الخطابين يصدر صوت سردي المعنى والمبنى يتعالق باطنه ما يقع خارجه، في رؤية منسجمة للعالمين السردي والواقعي.
تبرز في النموذجين السابقين قصدية توظيف الهذيان في بناء الخطاب السردي. إنها هلاوس تبني رؤية للعالم وتتحدث بلسان مجتمع بأسره لا بلسان قائلها فحسب. وهذه النقطة هي الضد المباشر للهلاوس الإنشائية التي ليس لها من دلائلية أو جمالية خارج ترفها اللغوي.
النموذج الإنشائي- الشعري
للهلاوس (أحلام مستغانمي)
منذ بداية التسعينيات برزت ظاهرة نزول الشعراء من الإنشاء الشعري إلى السرد الروائي أكثر من أي وقت مضى (أحلام مستغانمي مثلاً)، وقد استطاعت ثلة منهم التأثير على شريحة غير بسيطة من المثقفين، بشعرية اللغة، وسلاسة العبارة الإنشائية. كما نجحوا في توجيه الأذواق نحو مركز قوتهم (الأسلبة الإنشائية).
وإثباتاً لبراعة صوغها الإنشائي وعلو كعبها الشعري تقول أحلام مستغانمي في «ذاكرة الجسد»: «ستعودين.. مع النوء الخريفي، مع الأشجار المحمرّة، مع المحافظ المدرسية.. ستعودين.. مع الأطفال العائدين إلى المدارس.. مع الحزن الغامض.. مع المطر. مع بدايات الشتاء.. مع نهايات الجنون. ستعودين لي يا معطفي الشتوي.. يا طمأنينة العمر المتعب.. يا أحطاب الليالي الثلجية». وما تكاد تستأنف حوار شخصياتها وخطها السردي حتى تعود وتكسره بفاصل إنشائي متجدد: «كان حبك يأتي مع العطور والأصوات والوجوه، مع سمرة الأندلسيات وشعرهن الحالك.. مع فساتين الفرح.. مع قيثارة محمومة كجسدك… مر الزمن وأنت مازلت كمياه غرناطة رقراقة الحنين.. مر الزمن، وصوتك مازال يأتي كصدى نوافير المياه وقت السحر..».
والسؤال المطروح: هل لهذه التهاويم علاقة بموضوع محدد أو فكرة بعينها يمكن أن ترتبط بأحداث الرواية، عدا هذيان الخواطر التي يمكن أن تحملها أي قصيدة عاطفية معاصرة؟ ثم هل الإنشاء هنا هو ما يقطع حبل السرد، أم العكس؟ حينما يتكشف هذا التعامد الخطابي جلياً بين المحور العاطفي (الإنشائي) الثابت في تمركزه حول شاعريته، وبين الفكرة التاريخية المتحولة عبر الأزمنة والأحداث، يكرس المحور الأول (العمودي) فكرة «هذيان العشاق». بينما ينشغل المحور الثاني «الذاكرة التاريخية» أفقياً من الماضي إلى الحاضر، لكن غلبة الأول على الثاني. جعلت السردية بكل بنياتها تستحيل إلى فواصل وومضات تتخلل سديم الهلاوس الإنشائية الطاغية من حيث حجم تدفقها الكمي ونوعية صوغها الشعري. وما النجاح اللافت لهذه الرواية سوى مؤشر على بروز نمط من الكتابة ما فوق السردية، يمكن تعريفه بـ«النص الإنشائي الذي تتخلله بعض المقاطع السردية».
الانقلاب الافتراضي وسؤال التجنيس
لما فرضت هذه السمة الكتابية وجودها (بقوة الكم على الأقل) حتى صارت ميزة رواية عصرنا بلا منازع، ألا يمكن لنصوص هذه الهلاوس الإنشائية أن تشترع وجودها الأنواعي كشكل كتابي استدعته ميزة عصر انكفأت فيه الذوات على مكنوناتها، وزادتها وسائل التواصل الاجتماعي عزلةً، مرجحة سطوة المجتمعات الافتراضية بفعل ما تتبادله من منشورات ذات طابع بوحي وتنفيسي مع تعميق الانعزال المزدوج (الواقعي والافتراضي) بخيارات الخصوصية والأقنعة الصورية التي تعكس في مختلف تشكيلاتها البروفايلية صوراً باطنية وملامح خطابية لإنسان هذا العصر؟
وما الانقلاب من السردية إلى الشعرية سوى الوجه الآخر للانقلاب الحاصل بين الوجودين الواقعي والافتراضي في حياة إنسان هذا العصر، حيث تراجع الوجود الواقعي تاركاً مقود التحكم في مآلاته للوجود الافتراضي، الذي بات يرهنه، بل ويمنحه القيمة والمعنى؟ فإن كان التجـــريب قد أظهر على امتداد تاريخ الرواية أنماطاً وليدة كالواقعية السحرية، والرواية الأسطورية، والرواية الذهنية والرواية الجديدة، ورواية الأزمة (في العالم العربي) وغيرها من التجارب الناجحة، أفلا يحق لنصوص الخواطر الإنشائية والهلاوس الشعرية أن تضطلع بتصنيفها الأنواعي، باعتبار خصوصيات إنسانها وعصرها وبالتالي خطابها؟ بدل أن تستمر اللاأدرية التأليفية في طمس هوية الكتابة وتكريس لا انتمائها الأجناسي؟
(القدس العربي)