بطل أحمد علي الزين يودع بيروت مُقعداً على كرسي

عبده وازن

يتوارى الروائي أحمد علي الزين خلف بطله سهيل العطار الذي يتولى أيضاً فعل السرد، في روايته «العرافة» (دار الساقي) لا ليجعل منه قريناً له بل ليرثي من خلاله مدينة بيروت كما عرفها هو وعاش وقائعها بين الثمانينات والتسعينات من القرن المنصرم. والرثاء هنا يعني رثاء مكان وزمن ينتميان إلى ذاكرة جماعية هي ذاكرة الروائي وذاكرة راويه أيضاً الذي قد يكون شخصاً من أشخاص بيروت المتجذرين أو العابرين. وقد يعني الرثاء أيضاً كتابة نص روائي يفيض بالحنين إلى مدينة تكاد تغيب مع غياب أشخاصها أو تدخل شتاءها الروحي مع الراوي- البطل الذي أنهى خريفه للتو وبات مقعداً يحيا في غرفة ذات نافذتين حقيقيتين تطلان على مكانين حقيقين ونافذة أخرى رمزية أو مجازية تطل على ماضيه الشخصي الذي هو ماضي أزمنة وأمكنة متعددة منها مسقط رأسه طرابلس.
أما الغرفة التي قد تكون أيضاً «بطلة» هامشية في الرواية، فهي تقع في مستشفى للعجزة يدعى – للمفارقة – «مستشفى الفردوس» ويفصلها عن المصح النفساني الذي تطل عليه النافذة الشرقية، شبك عال من المعدن، بينما تطل النافذة الغربية على معهد للموسيقى وعلى الفتيات العازفات اللواتي أطلق عليهن أسماء وهمية، ومنهن العراقية ريتا التي يعرفنا على مأساتها. هذه الإقامة بين هذين العالمين تحوّل البطل – الراوي «بصاصاً» بالعين كما بالأذن وهو أصلاً صاحب أذن موسيقية وكان العزف على العود والغناء من هواياته الرئيسة، علاوة على ثقافته الشاملة بصفته أستاذاً جامعياً يدرس الفلسفة في الجامعة الأميركية – بيروت. لكنه بصاص على نفسه أيضاً، على ماضيه وأشخاص ماضيه، خصوصاً أنه يعيش حالاً من العزلة في مأواه الذي يصفه مراراً بـ «اللعين». وفعل «التبصص» هو الذي يحطم جدران سجنه ويحرره من واقعه المرير، سواء عبر استعادة الذكرة أم استخدام العين والأذن من وراء النافذتين.

سيرة العجوز
لكنّ هذا العجوز المقعد أو المتنقل على عكازيه يعكف على كتابة سيرته هذه التي استهل فصلها الأول بضمير الراوي أو الضمير المتكلم قائلاً: «اسمي سهيل العطار من مدينة طرابلس…»، ثم يواصل فصلها الثالث قائلاً: «سأبدأ من حيث أنا الآن – المأوى – منذ حوالى سبع سنوات أنا هنا…». لكنه يعترف أنه لا يكتب سيرته أو مذكراته إلا لـ «تصريف أحزانه، ويقول: «أعلم أن الكتابة لا تشفي لكنها أحياناً تسكّن الأوجاع أو توهم بذلك». وندرك في سياق النص أن سهيل العطار كتب مسرحية ويملك مخطوطة مخبأة في ظرف وقد أوصى بنشرها بعد وفاته وهي عبارة عن بحث فلسفي سوسيولوجي جريء يدور، كما يقول حول الفكر الديني وحول «التجهيل رحم ولادات التطرف».
يكتشف سهيل في لحظة من لحظات عزلته داخل المأوى أن الجميع تخلوا عنه، حتى زوجته سلمى التي قتلها رصاص قناص على طريق المتحف وكانت تحمل بين ذراعيها ابنها زرياب فانحنت عليه لتحميه وقد بان على فستانها الأبيض خيط الدم. لكنّ ذكراها لم تفارقه حتى بعدما وقع في حب نهلة «العرافة» الغريبة الأطباع التي لن تلبث أن تختفي من حياته اختفاء غامضاً. ابنه زرياب تخلى عنه أيضاً واختار له هذا المأوى واقتاده إليه بعدما أصبح عالة عليه. وتبلغ العلاقة بينهما ذروتها السلبية حين يعمد الابن زرياب إلى صفع أبيه في أشد لحظاته انهياراً وضعفاً. هذه الصفعة التي بدت حصيلة لحظة من التوتر والغضب لم تنجم عن ابن قوي يتحدى والده بل هي صفعة الابن الضعيف للأب العاجز. كان الابن يساعد أباه شبه المقعد على النهوض من فراش المرض عندما أنّ وصرخ ألماً جراء قروحه، فما كان من الابن إلا أن صفعه في رد فعل غاضب.

صفعة الابن
هذه الصفعة يعود إليها السارد حيناً بعد آخر تبعاً لبعدها التراجيدي وبصفتها حدثاً رئيساً أدى إلى عزل الأب في المأوى وإلى ابتعاد الابن الذي بدا يخالف صورة الابن الذي كانه أبوه في علاقته مع أبيه المكتبجي، أي جد زرياب. وفي وحشة المأوى لم يتوان الأب المعزول نفسياً عن استعادة صورة أبيه وكأنما انتقاماً من ابنه بعد الصفعة التي لم يتمكن من تناسيها على رغم الندم الشديد الذي حل بالابن. بل أن الأب سهيل يقول إنه عندما نظر في عيني زرياب بعد الصفعة التبس عليه وظن نفسه ينظر في عيني شخص يجهله ويستحيل أن يكون ابنه وأن تكون اليد يده التي يعزف بها على العود. يقول: «صفعني وراح يصرخ متمنياً الموت لنفسه ولي ولهذا العالم القذر». لكن ما آلم الأب كثيراً هو الدمعة التي سقطت من عين ابنه عندما انحنى عليه فبدا له هو العجوز الآن، كأنه أمه التي كانت تبدل له خرقه طفلاً. وسرعان ما غفر له فعلته التي لم تكن مقصودة. لكن الصفعة الأقوى تمثلت في نقل ابنه له إلى المأوى، وترْكه هناك يتخبط في حطام جسده ورميم ماضيه وذكرياته.
يسترجع الراوي سهيل العطار صورة أبيه المكتبجي المثقف والقارئ النهم وشبه المقيم في مكتبته في سوق طرابلس الداخلي، والمحاط بالكتب التي يحبها، الأب الذي كان متقدماً في ثقافته التراثية والحديثة، والذي يؤثر المعري على المتنبي. وفي استرجاع صورة الأب يستحضر الراوي صورة طرابلس، مدينة الطفولة والمراهقة، وأجواءها وسوق العطارين ومحيط القلعة وشخصية الدرويش الذي كان يظهر في رمضان راقصاً بثوبه الفضفاض. ولا ينسى حانة جورجيت التي كانت مرتع الشباب اليساريين الذين تأثر بهم في أول شبابه. ويستعيد أيضاً هو الذي يقارب السبعين صورة أمه الخياطة الماهرة في ابتكار الموضة وياسمين ابنة الجيران التي كان ينظر إليها من خلف النافذة تخلع ثيابها… ويسترجع أيضاً صوت جدته التي حفظ عنها مواويل وأغنيات ظل يرددها في لحظات الحنين والأسى.
نجح أحمد علي الزين في ابتكار شخصية الراوي سهيل جاعلاً منه شخصاً واقعياً ومتخيلاً، حقيقياً وكأنه من لحم ودم، ومتوهماً، مثله مثل المأوى ومثل المصح ومعهد الموسيقى اللذين يحيطان به. كل شيء واقعي هنا، حتى الأشخاص الذين يعبرون ذاكرته أو مشهد المدينة الذي يسترجعه في النزهة التي يقوم بها على كرسيه المتنقل برفقة ممرضته منى و «صديقيه» المقيمين في المصح: الشاعر المجنون زمان وبيتر لاعب الكرة الذي لقبه بـ «الثاني» تمييزاً له عن صديقه المسرحي بيتر الأول. وبدت فعلاً هذه النزهة البديعة كأنها نزهة وداع أخير لمدينة أضحت على رمق ذكرياتها الأخيرة. فالرواية هي أولاً وأخيراً رواية بيروت ولو تخللتها بعض الذكريات الآتيه من طرابلس، مسقط رأس الراوي.
حتى الراوي نفسه لم يخل من بضعة ملامح لا يمكن القارئ الذي يعرف الكاتب إلا أن يردها إليه، كما تمت الإشارة سابقاً. وهنا اللعبة الخطرة والجميلة التي يؤديها الزين: أن يجعل الراوي صورة عنه ولكن «مهتزة» أو «فلو» كما يقال تقنياً. يشبه الراوي الكاتب لكنه ليس هو. لقد أسقط الزين على راويه بعضاً من مواصفاته وأمزجته وملامحه. الراوي الذي هو أستاذ فلسفة عمل في الصحافة اليسارية، كتب المسرح وهو صديق المسرحيين ومنهم يعقوب الشدراوي الذي يسميه أو بيتر صاحب التجارب الاختبارية وهو معروف وإن لم يورد الكاتب اسمه. عطفاً على الميول المسيقية والذائقة الكتبية التي هي حتماً ذائقة الكاتب نفسه.

أشخاص عابرون
حتى الأشخاص الذين يعبرون الرواية يمكننا التعرف إليهم: الشاعر زمان المشاكس وحامل العلم وصاحب الأطوار الغريبة خصوصاً عندما يتأخر عن تناول دوائه، رياض مدرّس العلوم، عادل الشوال مؤرخ فلسطين والأندلس، سمير أستاذ الخط الذي وجد مقتولاً ومرمياً في مكب النورماندي الذي أصبح يسمى البيال، المثقف المنتحر الذي رمى بنفسه عن صخرة الروشة والذي يمكن تصوره الكاتب رالف رزق الله، ممدوح الثوري… ونزلاء المصح: القناص الذي يكتب الزين من خلال شخصيته صفحات بديعة في الرواية، المبتهج، سجين تدمر… جميع هؤلاء هم من الوجوه التي وسمت المدينة، مضافاً إليهم الأشخاص الذين سماهم جهاراً، مثل شوقي بزيع رائد مقهى دبيبو وبول شاوول (بولص) وعباس بيضون وأمين الباشا وبائع الصحف في شارع الحمراء ونقولا زيادة أمام بوابة الجامعة الأميركية وسواهم من الذين رحلوا وكانوا يرتادون مقهى كافيه دو باري (علي دياب، إبراهيم مرعشلي، ماجد أفيوني…). وكم بدا الزين موفقاً في استرجاع شخص عازف البزق الشهير مطر محمد الذي انتقل من زمن المجد إلى زمن الذل والفقر بعدما انتهت به حياته شبه مشرد يقيم في فاغونة في محطة مهملة للقطار في ضواحي طرابلس. هذه صفحات رهيبة أيضاً في الرواية.
أما العشيقة نهلة الباحثة في علم الاجتماع والمدرّسة في الجامعة الأميركية والعرافة التي تقرأ الكف فيفقدها ليعود فيلتقيها في الصفحات الأخيرة من الرواية في مقهى دبيبو. كانت جالسة إلى طاولة وأمامها «اللاب توب» أما هو فجالس إلى طاولة ولكن على كرسيه المتحرك. وعندما يتعارفان بعضاً إلى بعض مستعيدين بسرعة قبسات من ماضيهما تمد إليه يدها قائلة له: انهض، جاهلة أنه أضحى رجلاً مقعداً. حينذاك يشعر سهيل أن إلحاحها عليه في النهوض كان قوياً وجاذباً مما جعله ينهض بخفة غريبة شاعراً أن يداً رفعته وأن جسده خفيف كريشة طير فنهض ومشى في ذلك الليل الذي اختفت فيه ممرضته منى والشاعر زمان وربما المدينة كلها… هذه النهاية بشبه العجائبية تركها الزين ملتبسة ومفتوحة واستيهامية.
لم تتخط رواية «العرافة» المئتين والأربعين صفحة لكنها بدت حافلة بالأحداث والوقائع والذكريات والشخصيات والوجوه العابرة مما يجعل منها ما يشبه الألبوم. لكن اللعبة السردية التي قد تبدو متشظية إنما تقوم وحدتها المتينة على هذا التشظي الذي هو تشظي الذاكرة والزمن والمكان. أما ما يسم لعبة الزين السردية المحكمة فهي اللمسة الشعرية التي يتركها على لغته أولاً ثم على الشخصيات ومواقفها، وهي لمسة طالعة من عمق الحنين الذي يخالج هذا الكاتب الذي لا ينسى أنه جاء الكتابة من الموسيقى والمسرح.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى