دروب ريتشارد فلاناغان تقود إلى خراب الحروب
لينا هويان الحسن
قد تكون «القراءة البطيئة»، وفق تعبير نيتشه، هي ما نحتاج اليه كي نلتمس تلك العبارات المضيئة التي تكتظ فيها رواية «الدرب الضيق إلى مجاهل الشمال» لريتشارد فلاناغان (دار الجمل، ترجمة خالد الجبيلي). فالعبارات التي ترافق القارئ بعد أن ينهي قراءة هذا النص الطويل شائعة، ولطالما عرفتها البشرية، وإن كنّا نجد الأبطال أحياناً أمام أسماء جديدة لأحزان قديمة. وقد ينتبه القارئ الى أنّ فلاناغان يمهر الحزن يتوقيعه الخاص: «الحرية هي في أن يكون الرجل رجلاً، وفي أن تكون الغيمة غيمة، وفي أن يكون الخيزران خيزراناً».
المشاعر هي البوصلة الوحيدة للحياة، وفق منطق فلاناغان، الذي يروي لنا المأساة المتكررة في كل حرب: انتزاع الهوية الروحية والاجتماعية والوجدانية لمصلحة الهوية السياسية التي تجند البشر لخدمتها، رغماً عنهم، وضد قناعاتهم، يموتون في سبيلها.
السكة الحديد
تبدأ قصة الرواية في 15 شباط (فبراير) 1942، عند انتهاء إمبراطورية بعيد سقوط سنغافورة، وصعود إمبراطورية أخرى. وبعد سنة واحدة (1943)، أصبحت اليابان التي توسعت كثيراً، وباتت قليلة الموارد، عرضة للخسارة من جهة، وازدادت حاجتها إلى خطّ سكة حديدية من جهة ثانية.
لقد زوّد الحلفاء جيش شيان كاي شيك الوطني في الصين بالأسلحة من خلال بورما، وسيطر الأميركيون على البحار. وبغية قطع خطّ الإمدادات هذا عن أعدائهم الصينيين، والاستيلاء أيضاً على الهند عبر بورما – كما كان زعماؤهم يحلمون بجنون – كان يتعيّن على اليابانيين تزويد قواتهم في بورما بالرجال والمعدّات براً.
لكنّ اليابان لم تكن تملك الوقت ولا المال ولا المعدات اللازمة لمدّ خطّ السكة الحديدية هذه، في حين كانت ترى الى الحرب بمنطقها الخاص. لدى الإمبراطورية اليابانية إيمان راسخ بأنها ستنتصر، من منطلق أنّ الروح اليابانية لا تقهر. تلك الروح التي تؤمن بأنها لا بد أن تهيمن حتى تحقق انتصارها النهائي.
ومن أجل تكريس هذه الروح التي لا تقهر، كانت الإمبراطورية تستفيد من وجود مئات آلاف العبيد، من الآسيويين والأوروبيين. وكان بينهم اثنان وعشرون ألف محارب أسترالي، استـــسلم مــعظمهم عنــدما سقطت سنغافورة كضرورة استراتيجية حتى قبل أن يبدأ القتال الحقيقي. وقد أُرسل تسعة آلاف منهم للعمل في مدّ السكة الحديدية.
وفي 25 تشرين الأول (أكتوبر) 1943، انطلقت القاطرة البخارية «سي 5631» على سكة حديد الموت التي انتهى العمل فيها – وهو أول قطار يقوم بهذه الرحلة – يجر عرباتٍ ثلاثاً تحمل على متنها شخصيات بارزة من اليابانيين والتايلانديين، وقد مرّت فوق أسرّة لا نهائية من عظام البشر، ومن بينها رفات واحد من كل ثلاثة من أولئك الأستراليين الأسرى.
أما القاطرة فباتت تُعرض اليوم بكل فخر واعتزاز في متحف يشكل جزءاً من النصب التذكاري الوطني الياباني، وهذا ما يصوره فلاناغان وهو يتحدث عن مشاعر الرعب التي رافقت عملية مدّ السكة الحديدية. لا يذكر أسماء مئات آلاف الأشخاص الذين ماتوا دون رحمة وهم ويحملون الفؤوس، وانما يقدم الرواية كما لو انها سجل عن أرواحهم التائهة، فكان موتهم دعامة النصّ كله.
أسير حرب
ليس دوريغو ايفانز وحده أسير حرب، هنالك آخرون يرسخون في ذاكرة القارئ مثل: داركي غاردنر، بيغيلو… ومن الطرف الياباني كان تشوي سانغ مين، وكيم لي، وناكامورا. هؤلاء هم الشخوص الذين يتتبع فلاناغان خيط مصائرهم بأسلوبٍ يخلّف لدى القارئ إحساساً عميقاً بالانجراف والفراق على نحو لا يمكن تفسيره.
في البداية نتعرف إلى ايفانز، الذي أصبح في السنوات الأخيرة بطل حرب. جرّاح مشهور يُحتفى به. رمز وطني يمثّل زمناً ومأساة. يصير موضع تبجيل، وموضوع سير ذاتية ومسرحيات وأفلام وثائقية. كان يعرف أنه يمتلك بعض ميزّات «بطل الحرب» وخصائصه، لكنّه لم يكن هو. لقد حقق نجاحاً في الحياة أكثر مما يحققه في الموت، ولم يتبق الكثير كي يحمل عباءة أسرى حرب. يبدو أن إنكار التبجيل إهانة لذكرى الذين ماتوا.
مهما أطلقوا عليه من ألقاب (بطل، جبان، محتال)، بدأ يتكوّن لديه شيئاً فشيئاً يقين بأن لا علاقة له بكلّ ذلك. بل أن ذلك ينتمي إلى عالم أبعد وأكثر ضبابية، تحديداً في ذلك اليوم الذي أعطيت لهم فؤوس مثلّمة وحبال قنب متفسخة للشروع في عملهم، قطع أشجار الساج العملاقة الممتدة على طول خطّ السكة الحديدية المخطّط لها.
ربما أصبح مشهوراً لأنه نجا من الموت والأسر، وهو يتذكر حقيقة ما حدث. عندما يكون الرعب حاضراً كما لو أنه لا يوجد شيء غيره في الكون. ايفانز صار أيضاً شاهداً على الجوع الذي عشش في بطون الرجال وعقولهم. وربما عاش ايفانز ليسوق الكاتب الى هذا الوصف: «ليس للرجل السعيد ماضٍ، أما الرجل الحزين فليس لديه شيء آخر».
منذ البداية نعلم أن ايفانز سيعيش، سينجو من الأسر، لكنّ الحب لم يكن كذلك. انتهت الحرب، واستمر الحب، لم ترحمه قط صورة أيمي مولفاني ولا تلك الشامة فوق شفتها العليا ولا ضحكتها المبحوحة.
مرت رحلة ايفانز إلى الخطّ عبر معسكر أسرى الحرب في مرتفعات جاوة، حيث انتهى به المطاف. وبما أنه كان برتبة كولونيل، أصبح هو الشخص الثاني في قيادة ألف جندي أسير سيموتون كل يوم من الجوع والعطش والتعب والقهر، لكنّ وجه أيمي – زوجة عمه الشابة – سيظل بمثابة الألم المبرح الذي لن يفارقه حتى عندما يلمحها بعد ربع قرن.
هكذا يظل يتساءل عن الرغبة التي كانت تدفعه الى أن يكون معها، معها فقط، أن يكون معها ليل نهار. بل رغبته في أن يسمع أكثر حكاياتها كآبة، وأكثر ملاحظاتها وضوحاً.
كيف يمكنه أن يسمي هذا الألم الذي يعتريه في معدته عندما يتذكرها؟ هذا الضيق الذي يشعر به في صدره، هذا الإحساس الساحق بالدوار؟
عندما رأى أيمي بعد ربع قرن أدرك أن هوة السنوات – بــحــروبــــها التــاريــخيــة واختراعاتها الشهيرة وفظائعها وعجائبها الإعجابية التي لا تعد ولا تحصى- كانت جميعها من أجل لا شيء. وأدرك أنه لم يكن للغبار الذري، والحرب الباردة، أي تأثير في تبخترها.
هذا النص المتلاطم يخبرنا عن ميتات كثيرة. بل إن كاتبه فلاناغان لم يترك أي تفصيل من تفاصيل الوجع البشري إلا وكتبها. وتحديداً عن ذلك الخراب الهائل، اللامحدود والمدفون، الذي تخلفه الحروب.
(الحياة)