«شيفرة دافنشي» والحقيقة التاريخية
زيد خلدون جميل
كانت رواية «شيفرة دافنشي» من أكثر الروايات مبيعا في تاريخ الأدب العالمي، ففي خلال ست سنوات ومنذ صدورها عام 2003 بيع منها 80 مليون نسخة، لتتحول الرواية ليس إلى ظاهرة أدبية فحسب، بل واقتصادية أيضا، وادعى مؤلف الرواية دان براون، أن جميع المعلومات التاريخية في الرواية حقيقية تماما، ليحولها إلى كتاب تاريخ ورواية في الوقت نفسه.
ولدراسة هذه الرواية علينا أن نأخذ في الاعتبار أن الإنسان يقرأ ما يتلاءم مع أفكاره وميوله، ونستطيع أن نوسع هذا المفهوم لنعممه على الشعوب، فعندما تنتشر رواية ما في بلد ما نستطيع الاستنتاج أن الثقافة السائدة في ذلك البلد تتجاوب مع الأفكار التي تقدمها هذه الرواية، ولذلك فإن النجاح الهائل لرواية «شيفرة دافنشي» يدل على الميول الفكرية لقرائها من ناحية الثقافة التاريخية والدينية ومستوى الحبكة البوليسية، وتقبلهم الواضح لأي رواية تقدم لهم على أساس أنها حقيقة تاريخية.
تقع أحداث الرواية في أوائل القرن الحالي وتبدأ بجريمة قتل وقعت في متحف اللوفر في باريس، عندما دخل شاب أمهق مرتديا ثياب الرهبان المتحف ليلا وأطلق النار على أحد المسؤولين فيه، الذي كان رجلا طاعنا في السن، وفي الوقت نفسه كان أحد كبار الخبراء العالميين في أحد فروع التاريخ، ولا نعرف كيف دخل الراهب المتحف، ويبدو أن التفاصيل غير مهمة في هذه الرواية، ولكن المفاجأة كانت في الضحية نفسها، فذلك العجوز المصاب بطلق ناري كانت له القوة الكافية لأن يخلع ملابسه ويرسم على صدره العاري نجمة خماسية بدمه ويكتب بالقرب منه رسالة مشفرة بحبر لا يرى بالعين المجردة، ولا نعرف من أين جاء بهذا الحبر، وكتب طلبا باللغة الفرنسية للاتصال بروبرت لانجدن وهو عالم شهير مختص في الرموز وتاريخها، ثم يستلقى على الأرض بطريقة مطابقة لإحدى أشهر لوحات الرسام الأيطالي ليوناردو دافنشي (1452 ـ 1519). وعندما جاءت الشرطة وبدأت بالقيام بتحقيقاتها، اعتقدت أن ذلك العالم هو الذي ارتكب الجريمة فاستدعته بحجة طلب مساعدته لها وأحضروا خبيرة من جانبهم، وكانت، كالعادة في هذه الروايات، شابة جميلة، ويقوم العالم المذكور بفك شيفرة الرسالة. وتثق هذه الخبيرة الشابة بالعالم من اللحظة الأولى من لقائهما، وتخبره أنها لا تعمل لدى الشرطة حسب، بل إنها حفيدة الضحية أيضا، وتنذره بشكوك الشرطة به وتساعده على الهرب منهم، معرضة نفسها لمخاطر جمة، ليبدأ الاثنان مغامرة عجيبة شملت الكشف عن عدة جرائم قتل وحشية، بالإضافة إلى العثور على خزنة صغيرة معقدة من المفترض أنها كانت قد صنعت من قبل ليوناردو دافنشي نفسه، وفي داخلها معلومات مهمة عن أسباب حوادث القتل هذه. وينتقل الاثنان خلال هذه المغامرة من منطقة إلى أخرى في فرنسا وبريطانيا. ثم تكشف القصة تدريجيا عن أن السيد المسيح كان قد تزوج ماريا مجدلينا وأنجب منها ابنة وبعد صلبه هربت ماريا من فلسطين مع ابنتها إلى فرنسا مع بعض الأتباع لتعيش هناك. وهنا تبدأ سلالة السيد المسيح وحاول أتباعها إبقاء وجود ماريا وبالتالي سلالة السيد المسيح سرا من الأسرار، حتى عثر فرسان الهيكل (1119 ـ 1312) على أدلة في القدس تثبت زواج السيد المسيح من ماريا، ووجود سلالته وأقسموا على المحافظة على هذه الأدلة كسر أيضا، وبالإضافة إلى هذا تقول الرواية إن إحدى السلالات الملكية في فرنسا كانت من سلالة السيد المسيح، وإن هناك منظمة سرية تدعى «دير سيون» كرس أعضاؤها حياتهم لحماية سلالة السيد المسيح وسر وجودها، وأن ليوناردو دافنشي والعالم البريطاني الشهير إسحق نيوتن (1642 ـ 1727) تزعموا هذه المنظمة في أوقات مختلفة، بل إن ليوناردو لمح إلى علاقة السيد المسيح بماريا في لوحته الشهيرة «العشاء الأخير». وفي المقابل، على حد قول الرواية، كرست الكنيسة الكاثوليكية نفسها لمعاداة ماريا مجدلينا والقضاء على سلالة السيد المسيح ودير سيون للحفاظ على مكانتها عن طريق منظمة تابعة للكنيسة، وأن الكنيسة كانت تضطهد النساء منذ بدايتها وتحارب رموز المرأة في الدين المسيحي. وأخيرا تقول الرواية إن وريثة السيد المسيح الحالية هي خبيرة الشرطة نفسها.
من الناحية التاريخية تعتبر القصة خليطا من التلفيقات، التي بدأت في الظهور في العصور الوسطى وأشهرها آنذاك قصة «الكأس المقدسة» التي لا أحد يعرف معناها بالضبط، وهناك نقاش حامي الوطيس حولها وهي تلعب دورا محوريا في رواية «شيفرة دافنشي» وتوالت القصص الخيالية، ومنها قصة زواج ماريا مجدلينا من السيد المسيح وذهابها إلى فرنسا، وقد يكون سبب اختلاقها جذب السياح والحجاج إلى المكان الذي يقال إن ماريا مجدلينا مدفونة فيه طمعا بأموالهم. وفي التسعينيات من القرن الماضي قام بعض الكتاب بتأليف كتب عن هذه القصص مدعين أنها تاريخ حقيقي، وقام بعضهم بمقاضاة مؤلف رواية «شيفرة دافنشي» حيث اتهموه بالسرقة من مؤلفاتهم. وخلطت الرواية بين الأعداء والأصدقاء بالنسبة للكنيسة، ففرسان الهيكل مثلا لم يكونوا في الحقيقة ضد الكنيسة ليخفوا عنها شيئا بل جزأً منها لأنهم كانوا في الحقيقة رجال دين كاثوليك بتعيين من البابا نفسه، ولم يقوموا بأي محاولات للبحث عن أي وثائق أو آثار في القدس، وكان سبب وجودهم في القدس مختلفا تماما عما ادعاه المؤلف. أما بالنسبة للمنظمة المزعومة «دير سيون»، حسب قول المؤلف، التي تحمي سلالة السيد المسيح المختلقة، والتي كانت طقوسها المذكورة في الرواية عديمة العلاقة بالدين المسيحي وشبيهة بالطقوس السومرية، فإن هذه المنظمة لم تكن أصلا موجودة في أي وقت. وبالنسبة لتلك الخزنة التي من المفروض أن ليوناردو دافنشي كان قد صنعها فلم توجد خزنة من هذا النوع المعقد في عهد ليوناردو.
حاول مؤلف الرواية الاستفادة من كل عوامل الدعاية لتسويق عمله، فقد استغل المشاعر الدينية لدى القراء وكونهم يمتلكون بعض المعلومات عن الدين مهما كانت اتجاهاتهم الفكرية، ولذلك قام المؤلف بجعل الموضوع دينيا خالصا بشكل أساسي، وأضاف ادعاء وجود مؤامرات عالمية خفية بدأت منذ أمد بعيد حولنا، وقد ساعدته الكنيسة الكاثوليكية عن غير قصد في دعايته التجارية عندما انتقدت الرواية بشدة ما زاد من الاهتمام بها. وأضاف المؤلف إلى كل هذا تأكيده أن التفاصيل التاريخية في الرواية حقيقية تماما، مستغلا جهل القراء بالتاريخ وحماس الذين يريدون الاطلاع على تاريخ غير معروف، وحب البعض لقراءة تاريخ بديل غير مدعوم بأي أدلة ومكتوب بأسلوب بوليسي، على الرغم من سذاجة الحبكة البوليسية للرواية التي تساوي الحبكة البوليسية لقصص أجاثا كريستي الواسعة الأنتشار في أوساط المراهقين. وكانت خطوة ذكية أن يقوم المؤلف بإقحام فرسان الهيكل وليوناردو دافنشي وإسحق نيوتن في هذه القصة الخيالية، لأن هؤلاء الثلاثة يلعبون دائما دورا ملحوظا في الإعلام، الذي يبدو متقبلا دائما لأي قصة ذات علاقة بهم مهما بلغت نسبة الخيال فيها، بل إن ليوناردو دافنشي وإسحق نيوتن بالذات أصبحا رمزين خالدين للحضارة الإنسانية، وأي دراسة دقيقة لتاريخ الرجلين تبعدهما عن ادعاءات المؤلف في هذه الرواية. وللزيادة في الإثارة فقد أضاف فتاة جميلة وجرائم قتل سادية وطقوسا دينية تتألف من تعذيب النفس بالجلد. وأضاف أمكنة تاريخية جميلة في فرنسا وبريطانيا، وبشكل خاص متحف اللوفر الذي تبدأ الرواية وتنتهي فيه بشكل درامي مفتعل، على أساس أن رفات ماريا مجدلينا موجود في المتحف وكأن هذا المتحف في حاجة إلى دعاية، وكل هذه العوامل كانت قد أخذت بنظر الاعتبار من أجل تحويل قصة بوليسية ساذجة إلى رواية مثيرة. وطبعا تحولت رواية «شيفرة دافنشي» إلى فيلم سينمائي شهير، وقد شجع كل هذا مؤلف الرواية إلى كتابة روايات مشابهة، تحولت اثنتان منها إلى فيلمين شهيرين أيضا كان آخرها فلم Inferno، أي الجحيم، الذي عرض العام الماضي، وإذا كان هذا لا يكفي فقد قام آخرون بإنتاج أفلام على السياق نفسه.
وأخيرا فمع النجاح العالمي للرواية فقد قامت شركات السياحة بتنظيم رحلات سياحية لزيارة قبور الأشخاص والأماكن التي ذكرت في الرواية، ولاقت هذه الرحلات نجاحا كبيرا، كما ظهرت برامج تلفزيونية مع أو ضد الرواية أثارت اهتمام المشاهدين. فالجميع يريد الاستفادة ماليا من هذا الرواية الخيالية.
(القدس العربي)