‘جائزة التوأم’ .. تجربة استثنائية في قراءة العلاقة بين الماضي والحاضر
د. كرنفال ايوب
تنطلق الروائية ميسلون هادي لتشكيل الواقع العراقي الجديد في روايتها “جائزة التؤام” ) الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2016. ذلك النصّ السردي الضاجّ بالرموز والحمولات الدلالية من جهة، وصور الواقع البانورامية من جهة أخرى، لتعلل أحداث ومواقف عبر الاحتكام الى محددات هوياتية هي في حقيقتها تشكل عناصر ومفردات الواقع العراقي الذي سبق العام 2003.
لقد شكلت تطبيقات الكاتبة الذكية مرجعية مهمة وقراءة دقيقة للمحكي الواقعي، اذ لم تعدّ مجهولة تفاصيل الواقع البغدادي أو العراقي عموماً من خلال أبنية سرودها الثرية، فهي في “جائزة التوأم” تجتاح آليات الإرتكاز إلى الأحداث الحقيقية ودمجها مع المتخيلات السردية ليطالها جزء كبير من حقيقة المعاش اليومي لعائلة عراقية في ظل التغييرات المهولة التي اجتاحت كل التفصيلات في البيئة والواقع العراقيين.
تتعرض العائلة لصدمة كبرى حين يُخطف أحد توأميها (صخر) وهو طالب في المرحلة الرابعة في الكلية. وتتمتع هذه العائلة بوضع خاص، فالأب عراقي والأم إنكليزية جاءت لتعيش في بلد زوجها في ثمانينيات القرن الماضي، لتواكب كل التغييرات الاجتماعية والسياسية التي اجتاحت البلد، ولتختار أخيرا الرجوع الى بلدها طلباً للأمان مع (بدر) التوأم الآخر على أمل أن يلتحق (صخر) ووالده بهما بعد إنهاء دراسته، إلا أن الأمور تأخذ اتجاهاً آخر حين يُخطف (صخر) من جهة مجهولة ولتنتهي أحداث الرواية بتفجير صخر لنفسه في عملية انتحارية تستهدف مطعماً كانت أمه أحد رواده.
إن استراتيجية المقارنة قدمت للنصّ أبرز سماته الشكلية، المقارنة بين الحياة قبل وبعد 2003، جاءت على مستوى الزمان والمكان والشخصيات، فضلاً عن تعدد الأصوات الذي شكّل هو الآخر سمة مهمة من سمات النصّ. فالحكي يبرز على ألسنة الشخصيات، ومن أبرزها شخصية (إبراهيم) رب العائلة الذي تمنحه الروائية مساحة واسعة من السرد، فضلاً عن الحكي الذي يمارسه كل من (صخر)، و(بدر)، و(الأم صوفي). وهناك صوت للدكتور (عامر)، في تقنية اقتحمت النصّ وسيطرت عليه، فضلا عن سيطرتها على القارئ في خطة نصيّة مبهرة تحمل القارئ على إدراك وظيفتها الإشارية إلى مكمن الصراع.
لقد اعتمدت ميسلون هادي على محاور أساسية شكلت مرجعية خاصة حددت فيها أولوياتها وثبتتها بشكل متميز، وهذه المحاور تتلخص في أوجه الصراعات الأيديولوجية والسياسية وحتى الدينية، وتأثيراتها في حيوات الأبطال ضمن هذه العائلة.
لقد نحجت الرواية في الجمع بين الهموم الواقعية والطروحات الرمزية، إذ لا يخفى أن لكل اسم وحدث وزمان ومكان دلالته الإشارية التي ترتبط بشكل أو بآخر بمجموعة المقارنات التي عقدتها الكاتبة بين الأزمنة والأمكنة والأحداث والشخصيات.
إن شكّل النص قد استوعب الإطار الفكري، فمع الرؤى المختلفة لم يكن ممكناً الاحتكام إلى منظور سردي تقليدي يقدم للقارئ عالماً سردياً مليئا بالعلاقات والصراعات، فضلاً عن أن هناك استشعاراً لاقتصاد تعبيري مؤدٍ، حين تولي الكاتبة بعض الأصوات اهتماماً خاصاً، وتدفع بها إلى البوح وتقديم الرؤية الخاصة ووجهة النظر المغايرة.
إن هيمنة البرنامج السردي في “جائزة التوأم” شكّلت صور تأثيرات التلقي والتأويل لمقاربات مهمة تتعلق بما اتجه إليه الواقع وبالذات الصراعات العنيفة. ففي مجمل المسار السردي كانت هناك إضاءات هائلة على التأسيسات السياسية والأيديولوجية التي دفعت بأحداث ومتغيرات إلى النمو والاتساع بشكل غير متوقع، في فضاءٍ من الأزمنة والأمكنة التي ألحقت بالشخصيات، حين عمدت ميسلون هادي إلى جعل أزمنة وأمكنة للشخصيات، بأسماء وظفتها كعلامات وأدلة تؤدي وظائف جديدة تتأسس على تفعيل إلحاق الفضاءات بالشخصيات.
لقد حمل الخطاب، الذي وجهته الرواية، تعبيراً من نوع خاص، وشكلاً نوعياً تتحصل عبره مجموعة من الإشارات الدالة لاستلهام روح الواقع واستخلاص المغزى عبر صنعة تعدّ واحدة من أساسيات الارتقاء بالنصّ من خلال تقصّ ٍواعٍ عن الظاهرة، يرتكز إلى قياسات خاصة اعتمدتها الكاتبة ووظفتها في عالمها الروائي الذي لا بد أن نضعه تحت تصنيف التجارب القوية، لأنه بدا مشغولاً بأسئلة كبيرة ومهمة تتعلق بالهوية والانتماء واستجلاب العلاقة بالماضي إلى الحاضر المدعم الآن بمستويات أكبر من صور الصدام والصراع اللذين أخذا يتجهان إلى هزّ وتقويض الأساسات المجتمعية للفرد وتحويلها وفقا لاتجاهات خاصة تحتكم غالباً إلى رفض الآخر بكل ما يمثله.
وأهم ما يمكن الإشارة إليه هو أن النص قائم على توليد وتشكيل العلاقات بين مقاطع الحكي المتباينة للشخصيات ووجهات نظرها وأصواتها، مع منح كل صوت خصوصيته التعبيرية في مقاربة تعتمد على ترسيم يكشف عن علامات عن الموجهات والمحددات التي تحكم الأبطال.
لم تتخل الروائية ميسلون هادي عن تأثيثاتها السردية التي تقوم على استجلاب عناصر الموروثات الشعبية والارتكاز إلى العادات والتقاليد، كما لم تتخل عن أسلوبها البسيط والثري في الإشارة إلى العناصر البيئية والكشف عن علاقتها القوية بأبسط المخلوقات التي تعيش في مسرحها السردي، كما لم تنفصل الروائية – في “جائزة التوأم”، وبعد كل أعمالها على مدى سنين – عن الثيمة التي تحكمها وتشكّل هاجسها، وهي رسم صورة الوطن بمختلف حالاته، وارتباط الشخصيات به بمصيرية هائلة.
فهي تستجلي، في هذا النصّ – كما استجلت في غيره – الخفايا التي تحكم المصائر، فضلاً عن حالات الواقع المتباينة تبعاً للأحداث التي تسيّره، وتكشف عن أنماط من المعالجة تتباين بين الرفض والقبول، أو التحدي والاستسلام دون أن تخرج، بالطبع، عن فضائها الزماني والمكاني الحالم الذي تؤثثه دائماً بكل التفصيلات الباهرة:
“المسكن الجديد كان أقرب إلى البيت منه إلى العمارة.. بناية مصممة على شكل ثلاث شقق أنيقة مع كراج للسيارات ينزل قليلاً تحت مستوى الأرض، وحديقة أمامية صغيرة مشتركة لجميع الساكنين، وليس لساكن الشقة الأرضية فقط… الحديقة كانت جميلة وكثيفة الأشجار، ويوجد في الطرف البعيد منها باب جانبي يطل على الشارع الفرعي، وغرفة كبيرة بمطبخ وحمام يسكنها حارس سوداني اسمه عصمان مع زوجته ملَك.. وهذه الغرفة تقع على يمين الشقة الأرضية التي تركها شاغلها الطبيب لعدة سنوات أيام العنف الطائفي. تلك الشقة ظلت فارغة لفترة طويلة، وأمي حبيبة عندما تأتي إلينا كانت تتوقف لتلتفت إليها، وتلقّي السلام على ملائكتها، وتظل في حالة إنشاد متواصل للغمغمات والتمتمات خلال معراجها درجات السلم للوصول إلينا في شقة الطابق الأوسط التي سكنتها أنا مع صوفي وتوأمنا صخر وبدر، ولازلت أعيش فيها الآن، لكن لوحدي.”
لقد قدمت “جائزة التؤأم” نمطاً سرديا فعّالا كمَن في الحوارات الداخلية والمنولوجات، منحت الرواية زمنها المميز، وأداءها الخاص الذي توافق مع قضية المصائر والهويات التي ولجتها الروائية باستثنائية تحسب لها.
(ميدل ايست اونلاين)