ناتالي الخوري غريب: على من يكتبون الرواية أن يكتبوا نصوصًا تشبههم
عبدالقادر كعبان
ناتالي الخوري غريب أديبة لبنانية تمتلك عناصر الوعي النظري والفلسفي بالكتابة، حيث لفتت الانتباه بباكورتها الروائية “حين تعشق العقول” لأنها جاءت باحثة عن الحقائق في محاولة منها للخروج عن المألوف بنكهة صوفية.
تخصصت غريب في أدب اللغة العربية وحصلت على درجة الدكتوراه فيها، كما أنها ساهمت في العديد من النشاطات الثقافية والعلمية. صدر لها العديد من الكتب والأبحاث في شتى المجالات. حول تجربتها في عالم الكتابة الروائية والقصصية والأكاديمية كان لنا معها هذا الحوار:
قالت عن لذة الكتابة البحثية والأدبية: لكلّ نوع كتابي نكهته الخاصّة، فالكتابة البحثيّة عمل لا بدّ منه للأكاديمي من أجل تطوير عدّته النقديّة، والاطلاع على المناهج، والبحث عن الجديد لشعراء لم تتم الإضاءة عليهم، أو مقاربة أدباء بطريقة مغايرة، وهنا لذّة الكتابة البحثية في إظهار جديد لم تتمّ مقاربته من قبل نقّاد أو باحثين سابقين. كذلك تكمن متعة العمل البحثي في أنّك تجدّد أسلوبك بحيث تتأثّر بمن تدرسهم في إطار التراكمات التي تخلق جديدا، ليس تلك التي تجعلك مقلّدًا أعمى.
لكن في الكتابة الأدبية، أنت أكثر حريّة، لا تقيّدك المناهج، أنت حرّ في اختيار القالب، أكان مقالة أو قصّة أو رواية. ولكلّ من هذه الأنواع متعة خاصّة في الكتابة. لا أخفي انحيازي إلى كتابة الرواية أو القصّة، لأنّها تجعلني أحلّق في فضاءات التعدّدية، عند اختيار شخصيات متناقضة، تجعلني أجد مبرّرات لتصرّفات كلّ منها، وأغوص إلى أعماقها. في الرواية، القلم يسيّرك، وليس العكس، أنت تتعاطف مع أبطالك، تناضل معهم، تحزن حزنهم، تكون هم جميعًا، ويكونوا أنت.
وهي ترى أن الشجن هو ما نراه كثيفا حولنا، في مآسي الناس ومآزمهم، وهذا ما ينعكس في عيونهم ونظراتهم، المظالم الكثيرة حولنا لا تحتاج إلى حسّ مرهف كبير لتشعر بالآخرين، يكفي أن تضع نفسك مكانهم، فينتقل إلى داخلك كلّ الحزن الساكن في عيونهم. أبطالي هم شخصيات من المجتمع الذي أعيش فيه.
وعن قراءاتها في التصوف ترى أن تلك القراءات جعلتها ترى أن التصوّف يشكّل درب الخلاص بطريقة ما، من ناحية الانفتاح على الجوهر الإنساني بابا للإيمان بالعدالة الإلهيّة وإيمانا بالجوهر الواحد الذي ينطلق منه مهب وحدة الأديان. وقالت: إذا كانت إليف شافاق اعتمدت على سيرة حياة مولانا جلال الدين الرومي وشمس تبريز لإظهار الحقيقة الصوفية، فإني آثرت أن يكون تصويري للحقيقة الصوفية من باب الواقع الإنسان المعاش عند الناس العاديين في ارتقائهم إلى هذا الفكر.
وعن روايتها الموسومة “هجرة الآلهة والمدائن المجنونة” قالت: ربّما يكون العنوان هو أكثر ما أثار الجدل، فبعضهم يتوقّف عنده من دون الغوص على أعماق الرواية، العنوان بحدّ ذاته يحمل التباسًا في الدلالة، “من هجر من”؟ الناس هجروا الله أم هو الذي هجرهم؟ تحمل الرواية مأساة الإنسان العربي في ظلّ الحروب، انطلاقا من الحرب السورية تحديدا وصولا إلى معاناة الايزيديين، وصولا إلى افريقيا ومعاناة إيبولا. هي معاناة الإنسان في وقفته أمام الموت، ووصف مآزمه الإيمانية بين هجر الله أو التمسّك بإلإيمان به، من خلال وقفات مختلفة أمام الموت، لأعرض من خلال قصّة رجل دين فقد عائلته أمام عينيه في الحرب علاقته مع الله بين مدّ وجزر، وكيف تعاطى الماركسي والصوفي والعبثي والمؤمن مع هذه الفاجعة التي يعانيها جميعهم.
وتحدثت ناتالي عن مشروع أطروحتها للدكتوراه عن ميخائيل نعيمة وكمال جنبلاط وقالت: كان هدفي من الدراسة الإضاءة على شعر صوفي لم يدرس سابقًا، في محاولة لاستخراج منظومة صوفيّة متكاملة تحكم شعرهما، وفقا لمنهج البنوية التكوينيّة. نعيمة دُرس كثيرا في أدبياته، لكنّ شعره لم يدرس صوفيًّا، كذلك المعلّم كمال جنبلاط، دراستي هي الدراسة الأولى التي تناولت شعره كاملا، وقد حاولت وفاقا لمشاربهما المختلفة أقامة مقارنة بينهما.
وعن مجموعتها القصصية “العابرون” قالت: لم أبتعد في مجموعتي القصصيّة عن المنحى العام لروايتي السابقتين. بقيت شجون الإنسان في ظلّ الحروب مهيمنة، كما في أقصوصة “قوارب الموت” التي يخبّر عنوانها عن مضمونها،” وجبل الأماني” التي تتناول موضوع الاتجار بالأعضاء، و”كتاب الأسرار” التي تتناول الموروث الديني، كذلك “عودة الابنة الضالّة”. أمّا “الغريبان”، فلها فضاء مختلف نسبيًّا لرومانسيتها وتوقها الى إلغاء الحواجز بين البشر التي افتعلوها، ولغتها الشعريّة. المختلف في هذه المجموعة القصصية، أنّها تجمع بين الأسلوب الواقعي والرمزي، يقترب من الأسطورة أحيانا لينقل الواقع إلى فضاءات عالم المثل. لست مكتفية بمجموعة واحدة، وآمل أن تطلّ أخوات هذه المجموعة قريبًا.
ناتالي خوري ليست من المتشائمات في موضوع الحراك النقدي، وترى أنّ مستوى الحركة النقديّة يصوّر مستوى الحركة الأدبية، على صعيد الصفحات الثقافية ومنابر الندوات والإصدارات الجديدة، كذلك على صعيد الدراسات الأكاديمية والأعمال البحثية. كلّ يختار منهجه وفق اقتناعاته هذا حقّه. ونموّ حركة النشر في الأعمال النقديّة يعبّر عن عافية النقد في لبنان والعالم العربي.
وعن “حركة إصدار ونقاش” التي تعد ناتالي من مؤسسيها قالت: في ظلّ المنتديات الشعرية الكثيرة في لبنان، كذلك المنتديات الثقافية، فكّرت بحركة نقدية لا تشبه أخواتها، بدأنا بإنشائها مع طلابنا وبعض الزملاء الجامعيين والإعلاميين، من حيث ضرورة حضور ثلاثة أجيال متخصّصين على المنبر الواحد لمناقشة الأعمال الأدبيّة، ولقاء الأدباء. نعمل الآن على تمتين حضور الطلاب، أي الجيل الجديد من خلال لقاء الأدباء وعرض أبحاث ودراسات حول أعمالهم، ومن ثمّ نشرها في الصفحات الثقافيّة، ليتمّ الانطلاق لاحقا إلى الهدف الأساسي من حركتنا وفق مشروع نقدي يجمع بين الأكاديميّة وترغيب القرّاء غير المتخصّصين بالنقد.
وأضافت: لا يمكن لأيّ عمل أدبي أن يكتمل أو ينصف من دون عمل نقدي يواكبه، وإعلام يظهره. وقد كنت محظوظة أن تناول الكثير من الأقلام الناقدة أعمالي الأدبيّة، بكلّ موضوعيّة إظهارًا لما فيها من مكامن فنية وتجديديّة. أحييهم جميعًا.
وعن علاقة الناشر بالمبدع حاليا قالت: يجب أن تكون علاقة احترام متبادل وثقة متبادلة بين كلا الطرفين. فالنشر عمل رسولي، وإيمان بأهميّة الكتاب الذي ينشره بناء على قيمته وإفادته.
ناتالي خوري تعمل الآن على رواية جديدة، تحمل خطًّا جديدًا مغايرًا لما كتبته سابقًا، تجمع بين التصوّف والأديان والحضارات، وتشبهها كثيرًا.
وتقول عن العالم الافتراضي إنه: لا يمكن لنا أن ننكر أنّ العالم الافتراضي جعل الأدباء العرب يقرأون نتاجات بعضهم ويتعرفون إلى بعضهم بعضًا، وهذا ما خلق توليفة جديدة ولو أنكر كثيرون ذلك. فالهواجس العربية واحدة، ما عادت الجغرافيا لتفصل بينهما، واللغة واحدة، والنبع الذي نستقي منه جميعًا واحد.
وهي تتمنى أن على من يكتبون الرواية، أن يكتبوا نصوصًا تشبههم، تعبّر عن هواجسهم، وتحمل رسالة تجعل الآخرين يؤمنون بالتعدديات، ويقبلون على الحياة وجمالاتها بكلّ إنسانيّة وانفتاح وحسّ كوني، وألا يهملوا متطلّبات الروح وصوتها، وذلك بلغة عربيّة أنيقة وصحيحة.
(ميدل ايست اونلاين)