ستيفن فريرز مخرج بريطاني خارج التصنيف
أمير العمري
يعتبر المخرج البريطاني ستيفن فريرز (75 عاما) من أكثر المخرجين تعقيدا واستعصاء على التصنيف. فهو ينتقل بين أساليب عدة، ومواضيع مختلفة اختلافا بيّنا، ولكن ما يجمع بين أفلامه الكثيرة التي أخرجها عبر أكثر من 40 عاما للسينما والتلفزيون (حوالي 60 فيلما)، قدرته اللافتة على رواية قصة، أي تحقيق الحبكة، ودفع الأحداث في اتجاه يثير اهتمام المتفرج، والسيطرة الكبيرة على أداء الممثلين، وعلى الإيقاع العام للفيلم، وقبل هذا، اختيار مواضيع تثير الفكر وتثري الخيال.
على الرغم من ذلك ليس مفهوما لماذا أقبل فريرز مؤخرا على إخراج فيلم يحمل هذا العنوان الذي يفتقر للجاذبية، أي “فلورانس فوستر جنكنز”، خاصة وأن موضوعه سبق تقديمه في السينما الفرنسية العام الماضي، في فيلم “مرغريت” من إخراج المخرج الفرنسي البارع زافييه جيانوللي، وقامت ببطولته الممثلة كاثرين فرو في أداء لافت.
كان الفيلم الفرنسي يتميز بالمزج بنجاح، بين الموضوعي والتاريخي، العاطفي والنفسي، في سياق من السخرية والمرح، ولكن دون أن يغيب عنه الطابع الإنساني المشوب بالتعاطف، مع نغمة رثاء خفية لبطلته مرغريت ديمون سليلة الأرستقراطية الفرنسية التي تريد “أن تكون” و”أن تتحقق”، لكنها لا تعرف ولا تقدر، بل ولا تملك من الموهبة ما يكفل لها أن تنال ما تصبو إليه، غير أنها رغم ذلك، تستمر في محاولاتها، غير مدركة للحقيقة القائمة من حولها، وربما أيضا غير مبالية بها، إلى أن تسقط ضحية نفسها وطموحها الذي لا يتكافأ مع قدراتها.
كان الفيلم يدور في عشرينات القرن الماضي، بعد الحرب العالمية الأولى، وقد نجح مخرجه كثيرا في تصوير الأجواء الباريسية بعد الحرب، منتديات جماعات الفوضويين واليساريين، الرسامين والشعراء المجانين، والمهووسين بالرغبة في الصعود بأيّ ثمن، صالونات الأرستقراطية وجمعيات رعاية جرحى الحرب، تقاليد الأوبرا، وكيف تساهم الصحافة في تدمير الشخص عن طريق تملّقه، وكيف كانت مرغريت تندفع في رغبتها لإثبات نجاحها وتفوقها أمام زوج لا يشعر بها، لكنه لا يجرؤ على مواجهتها بالحقيقة، أي افتقارها للموهبة، وأنّ صوتها منفّر وبشع، فهل كانت مرغريت -في النهاية- مذنبة أم ضحية، عاشقة أم واهمة؟
هل من الممكن أن نغفر لها ذلك الحب كله للفن وللموسيقى حتى لو لم تكن موهوبة؟ وهل كان يجب أن تُصدم على هذا النحو القاسي بعد أن ظل مَنْ حولها يزيّنون لها ما تفعله ويمارسون عليها الكذب والتضليل خدمة لمصالحهم الشخصية. مرغريت في الفيلم الفرنسي أقرب إلى البراءة الطفولية، فهي تتميز بالصدق والشفافية ولكنها لسوء حظها، لم تكن تستمتع قط إلى صوتها وهي تغني. وقد دفعت بقسوة ثمن أحلامها الكبيرة.
عودة إلى الأصل
فيلم ستيفن فريرز أقل نجاحا من الفيلم الفرنسي رغم أنه يرجع القصة إلى أصولها الأميركية، فبطلتها الحقيقية -التي يحمل الفيلم اسمها- هي السيدة الأميركية الثرية فلوارنس فوستر جنكنز (1868 – 1944) التي تقوم بدورها ميريل ستريب، كما ينقل الزمن إلى ما زمن الحرب العالمية الثانية، ويجعل بطلة القصة تنفق الكثير من المال لكي تصبح مغنية أوبرا، رغم افتقارها للموهبة.
ويصبح المال في الفيلم الجديد هو المحرك الأساسي لصعود الشخصية، بينما كانت حماسة مرغريت المندفعة في الفيلم الفرنسي تنبع من رغبتها في إثبات وجودها وتفوّقها أمام زوج تحبه لكنه لا يشعر بها، مع ولع خاص بفن الأوبرا، بغض النظر عن مقالات النقد القاسية التي يكتبها الصحافي “الشرير” في “نيويورك بوست” الذي يخصص له ستيفن فريرز ولأهميته وتأثيره، مساحة كبيرة من فيلمه، يعيد ويزيد فيه، ويستطرد ويشرح دون طائل.
ولا ينفع أداء ميريل ستريب للدور في إنقاذ الفيلم من الترهل والتكرار، ربما بسبب تلك المبالغات الكثيرة، خاصة وأنه يجعل فلورانس تتزوج من رجل يصغرها كثيرا (يقوم بالدور هيو غرانت) ويجعله يحبها ولا يحبها، فهو يقيم علاقة غرامية مع امرأة أخرى بسبب افتقاده للعلاقة الحميمية معها، لكنه مع ذلك لا يطيق لها شرا، وعندما يجدّ الجدّ، نراه يبكي بجوار زوجته الثرية التي لا يبدو أنه يستغلها كما كان يفعل الزوج جورج في الفيلم الفرنسي، فقد أسبغ مخرجه مضمونا “طبقيا” على الأحداث، وكان يوجّه هجاء شديدا لرموز الأرستقراطية المنافقة التي تنافق وتداهن وتخفي الحقيقة، ليس خشية على مشاعر البطلة، بل من أجل مواصلة الحصول على ما تجود به.
وبدلا من شخصية ميدلبوس الخادم الأسود المخلص للسيدة في الفيلم الفرنسي، والذي نراه يفعل كل ما يمكنه ولو باللجوء إلى التهديد والوعيد والابتزاز، لكي يضمن لها تحقيق ما تصبو إليه، يبتكر سيناريو فيلم ستيفن فريرز شخصية هزلية لعازف البيانو (المثلي) الذي يبدو متشككا كثيرا في موهبة السيدة، آخذا الأمر على محمل الهزل لكنه يقع أسيرا لسحر شخصيتها وهوسها بالأوبرا، ولكن دون تبرير أو إقناع!
كان فيلم مرغريت عملا كلاسيكيا ينتمي لسينما الفن، أما فيلم فريرز فيرغب في مداعبة سينما الفن تارة، وسينما الشبّاك تارة أخرى، فهو يتأرجح بين الكوميديا الهزلية والسخرية والميلودراما، ويجعل بطلته ضحية لنفسها أكثر مما هي ضحية لطبقتها المنافقة.
بداية المسيرة
بدأ ستيفن فريرز مسيرته في عالم الإخراج بالعمل لحساب التلفزيون، فأخرج الكثير من الأفلام التلفزيونية والمسلسلات الدرامية والأفلام القصيرة التي صورها بكاميرا الفيديو، ثم انتقل في العام 1984 ليخرج فيلمه الأول “الضربة” الذي يصور كيف يختطف اثنان من القتلة المحترفين مجرما ويعودان به إلى باريس لكي يلقى جزاءه أمام زملائه الذين خانهم، لكي يقع الكثير من التعقيدات أثناء الرحلة. كان هذا فيلما من أفلام الطريق، كما كان معالجة سيكولوجية لعقلية قاتل محترف.
في هذه المرحلة من مسيرته الفنية اتجه ستيفن فريرز إلى الواقعية التي سيصبح من روادها في السينما البريطانية. وفي العام 1985 أخرج فيلمه الثاني الذي يمكن اعتباره أول أفلامه الحقيقية وهو الذي جذب الأنظار لموهبته الكبيرة، أي “مغسلتي الجميلة”.
وقد فتح النجاح الكبير الذي حققه الفيلم الكثير من الأبواب أمام فريرز لكي يمد تجربته في الفيلم الروائي الواقعي على استقامتها، بل وينجح في اقتحام هوليوود حيث أخرج عددا من الأفلام أشهرها “علاقات خطرة” (1988) و”المحتالون” (1989) الذي كتب له السيناريو المخرج الأميركي الشهير مارتن سكورسيزي، وفيلم “بطل” (1990) الذي قام ببطولته داستين هوفمان.
الهم الاجتماعي
كان ستيفن فريرز في أفلامه البريطانية مهموما عادة بالقضايا الاجتماعية، بالتناقضات الطبقية الكامنة تحت جلد مجتمع ظاهره البرود، بينما باطنه يغلي في صمت. وفي “مغسلتي الجميلة” (الذي كان اكتشافا لموهبة دانييل داي لويس) و”افرك أذنيك” (1987) و”سامي وروزي” (1987)، يتناول فريرز قضايا ومشاكل كانت مطروحة بقوة في ثمانينات القرن العشرين، زمن “التاتشرية” مثل البطالة ومشاكل الأقليات المهاجرة التي تعيش على هامش المجتمع، والعنف، والهرب إلى الجنس.. وغير ذلك.
في “مغسلتي الجميلة” مثلا يناقش فريرز التشوهات التي نتجت عن سياسات حكومة مرغريت تاتشر، صعود الجماعات العنصرية، شعور المهاجرين من الجالية الآسيوية بالتهميش الاجتماعي، البحث عن الصعود بأيّ ثمن في مجتمع أصبح المال هو القيمة الوحيدة فيه، فوضى العلاقات العاطفية. وهي ثيمة تكررت في عدد من أفلامه التالية خاصة “سامي وروزي” الذي كتب له السيناريو الكاتب الباكستاني الأصل حنيف قريشي قبل أن يتجه إلى الإخراج.
وقد أصبح فريرز منذ هذا الفيلم، يهتم بإدخال شخصية “مثلية” لكي يعكس من خلالها التنوع الطبيعي في المجتمع البريطاني، ويقدمها في صورة تدعو إلى الفهم والتعاطف بعيدا عن الصورة النمطية. الشخصية المثلية تتكرر مثلا في فيلم “فيلومينا” التي تبحث فيه سيدة متقدمة في العمر (تقوم بدورها جودي دنش) يساعدها صحافي، عن ابنها الذي انتزعته راهبات دير كاثوليكي قبل خمسين عاما، وأرسلوه إلى أميركا، لكي تكتشف بعد بحث طويل مرهق، أنه توفي وأنه كان مثليا، وتخوض معاناة مع الذات حتى يمكنها قبول الحقيقة والنظر إلى تاريخ ابنها باحترام.
عالم السياسة
في العام 2003 عاد فريرز من خلال الدراما التلفزيونية الشهيرة “الصفقة” إلى تناول موضوع سياسي مباشر عن لحظة مثيرة في تاريخ العلاقة بين رئيس الوزراء توني بلير ووزير الخزانة البريطانية (ووريثه فيما بعد) غوردون براون.
ومع فيلم “الملكة” (2006) عاد فريرز بقوة إلى الموضوع السياسي ولكن من خلال خصوصية أسلوبه الذي لا يخلو من الفكاهة وروح المرح والنزعة إلى السخرية السوداء. وقد نجح الفيلم في الوصول إلى الجمهور البريطاني رغم تجسيده الساخر لأكثر الشخصيات العامة مهابة واحتراما في الأوساط الشعبية البريطانية، أي شخصية الملكة إليزابيث الثانية.
يتناول الفيلم موت الأميرة ديانا وموقف العائلة الملكية من هذا الحدث وتداعياته، ثم موقف رئيس الوزراء الشاب الطموح وقتها، توني بلير، وكيف اتجه إلى استغلال الموقف لتحقيق هدفين: الأول تأكيد دوره الشخصي كرئيس للحكومة أمام حزبه، والثاني إسداء خدمة، يعتبرها جليلة حقا، للملكة وعائلتها، تساعد على إنقاذ صورتها أمام الرأي العام.
وقد أثمر التعاون بين فريرز وكاتب السيناريو بيتر مورغان (صاحب “آخر ملوك اسكتلندا” و”فروست/ نيكسون”) فأنتج عملا شديد التوازن والاهتمام بالتفاصيل والمقارنات والتقابلات: الطقوس الرسمية الصارمة في القصر الملكي، ومنزل توني بلير رئيس الوزراء الشاب الذي يتمتع بالحرارة والحيوية ومنزله المفتوح الذي يعج بالأصدقاء والمساعدين وتفوح رائحة الشواء من حديقته.
يصور الفيلم الأحداث الصاخبة التي تتداعى منذ نجاح حزب العمال وتولّي بلير رئاسة الحكومة في مايو 1997، ثم موت ديانا، ورغبة العائلة الملكية في اعتبار هذا الحدث الجلل مجرد “حدث شخصي” ترغب في أن تنأى بنفسها عنه، ثم انفجار الحزن الجماهيري العارم، وتصاعد غضب الشارع إزاء موقف الملكة وعائلتها السّلبي، وكيف يبذل بلير جهدا شاقا في إقناع الملكة بالعودة إلى لندن وإقامة مراسيم تشييع رسمية لديانا والنزول لتهدئة الجماهير الغاضبة. يتمتع الفيلم رغم كل هذه التداعيات، بلحظات تأمل وصمت ذات دلالة كبيرة في سياق الأحداث.
يبدأ الفيلم بنوع من المحاكاة الساخرة المسلية لشخصية توني بلير كما يقوم بها الممثل مايكل شين (الذي سبق له القيام بالدور في “الصفقة”)، ثم يتعمق تدريجيا في تجسيد ملامح “حالة” سياسية ونفسية واجتماعية سيطرت على مجتمع بأسره عندما هزته تراجيديا موت أميرة دعاها بلير في نعيه لها بـ”أميرة الشعب”.
ورغم استخدام المخرج للكثير من اللقطات التسجيلية كما في لقطات المقابلة التلفزيونية الشهيرة التي بثها الـ”بي بي سي” مع الأميرة ديانا والتي صرحت فيها بوضوح بأنه “كان هناك من البداية ثلاثة أشخاص داخل هذا الزواج”، إلا أن الفيلم يعتمد أساسا على إعادة التجسيد وعلى سيناريو متحرر كثيرا في تصويره لطبيعة العلاقات، وهو ما يضفي على الفيلم الواقعية والمصداقية.
ستيفن فريرز مستمر في دفع نقاده إلى الحيرة والارتباك، فهو ينتقل من موضوع إلى موضوع مختلف تماما، ومن أسلوب إلى آخر لكنه يحافظ دائما على جعل الكاميرا تتلصّص على الأحداث والشخصيات في أفلامه، وكأنها أصبحت إحدى شخصيات هذه الأفلام، لا يميل للمباغتة في “الأسلوبية”، أو في تحريك الكاميرا والتلاعب بالمادة المصورة خلال المونتاج لكي يثبت وجوده ويجعله محسوسا، بل يفضل أن يكون المونتاج أداة لخلق بعض التقابلات والمقاربات الخفية، يطعّمها كعادته، بالسخرية وإشاعة جوّ من الألفة والفكاهة.
ولعل ما يبقى من فيلمه الأحدث “فلورانس فوستر جنكنز” هو تحديدا قدرته على الإمتاع من خلال المفارقات والتناقضات التي تعيشها الشخصية الرئيسية بعيدا عن مقارنة منهجه في التعامل معها مع منهج الفيلم الفرنسي.
(العرب)