أحمد يماني.. في منتصف الحجرات

الجسرة الثقافية الالكترونية-العربي الجديد-

يقسم أحمد يماني مجموعته الشعرية الخامسة “منتصف الحجرات” (دار ميريت، 2014) إلى قسمين يمثل كل منهما قصيدةً طويلةً من مقاطع: “وراء الباب” و”النائم الذي لم أره”، بحالتين شعوريتين تبدوان – للوهلة الأولى- مختلفتين كأنهما حجرتان متجاورتان، ثم ما نلبث أن نكتشف أن ما يجمع بينهما هو الحسرة على الغائب عاشقاً كان أو “نائما”؛ فالقسم الأول يسرد عن العاشق الذي “يمنح نفسه طويلاً، وفي معظم الأحيان لا ينتظر شيئا في المقابل”، والثاني عن النائم الذي “أحياناً يبكي خطأ الطبيعة الممتدّ لكنه لا يبكي ولا يبتسم حقيقة”.

ثمة رغبة ملحّة في التأمّل دون تورطٍ في الاشتباك، فالحجرة ملاذ آمن للتداعي وسرد الصور، لكن الشاعر يكتشف في هذه السردية تورطاً أكثر إيلاماً: إنه استدعاء لماضٍ ما زال فاعلاً في وجدانه، غير أنه لا يهرب منه، بل يبقى في منتصف حجرته على مسافة واحدة منه ومن كل شيء، وحيث يكون العالم ممثَّلاً بشكل غائم في الكتب والسرير والنافذة المطلة على ما يجهل. إذن، في هذه الحالة ليس على الشاعر سوى أن يتمدد. “أنت في منتصف حجرة وفي منتصف الحجرات ليس على المرء سوى أن يتمدد واضعاً طوبةً تحت رأسه”.

عنوان القسم الأول “وراء الباب” يعطي مفتاحاً للقراءة مثلما يحتاج الباب إلى مفتاح، يدخل القارئ إلى الغرفة ليجد تفاصيلها/مقاطعها مبعثرة كأنها خرجت من عاصفة. نمشي معه من الباب إلى المنتصف لنلمس خواطره وهي تتشكل دون زمن محدد. ربما داهمته الفجيعة ليتحرّك من سكونه بعد أن أصبح جزءاً من موجودات الحجرة، لكنه يتذكر “خيبة الأجساد المتحرّكة” فيبقى مكانه إذ “يمكنه بالكاد أن ينسى”.

في “وراء الباب” المسافة تمنح فرصة للنظر، والعزلة صيّادة لما يشرد في الزحمة، غير أن الإنهاك الناتج عنهما لا يعطي فرصةً للمجاز، فاللغة مخادعة أحيانا في التقاط الشعور، خاصة وأن “الألم هو مجرد ألم/ مهما تضخم أو امتد فلن يكون له اسم آخر”.

لعبة الشاعر هنا ليست في اللغة، بل يبثها في الضمائر؛ فضمير المتكلم يصطاد اللحظات الشاردة ويستحضر لهوها “أطرق الباب ولا تفتحينه ولا تسألين من الطارق، ثم تطرقينه أنت ولا أفتحه ولا أسأل من الطارق”. في حين أن ضمير الغائب يخوض معارك “ترسيم الحدود” بين ما عليه العاشق وما يجب أن يكونه. في “النائم الذي لم أره” -القصيدة الأقل حجماً- تغيب ذات الشاعر إلى غيره، ذلك النائم الذي تحوّل إلى هاجس يزاحمه حجرته تارة، وتارة في أجساد الذين يلتقيهم، حتى استسلم طيعاً إلى حضوره، بل وصار يمنحه من عطايا الحياة التي تأتيه: “كل امرأة جديدة عرفتها تركتُ له ليلة معها، يتشربها وحده. تفتح المرأة عينيها وتقول لي: عيناك هذه الليلة أوسع من المعتاد، إن يديك… يديك… لا أعرف كيف أشرح لك الأمر. أبتسم فقط وأترك له أن ينصب شركه ويوقع بهنّ وفي الصباح يعود ثانية إلى البيت”. لكن هل تغيب ذات الشاعر حقا؟ أم هي حيلة أخرى للإمساك بذلك النائم والتقاط أنفاسه من جسد آخر قبل أن يسدّ كل منافذ الهواء؟ بعد قراءة متأنية يمكن التقاط روح الشاعر الراحل أسامة الدناصوري المهيمنة على القصيدة، بسخريته وشاعريته الخاصة، ويبدو أن جرح غيابه لم يفارق “يماني” حتى حوله إلى قصيدة يقول له فيها مالم يقله قبل رحيل  

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى