«جريمة» عباد يحيى تكشف خفايا رام الله

فجر يعقوب

أثارت رواية «جريمة في رام الله» (المتوسط) للفلسطيني عباد يحيى حفيظة النائب العام في فلسطين أحمد البراك، فاتخذ قراراً بمنعها من المكتبات الفلسطينية وإحضار مؤلفها وناشرها للتحقيق معهما بتهمة خدش الحياء العام، وتعريض الأطفال والقصّر للانحراف والرذيلة. فأحدث قراره «ثورة افتراضية» متضامنة مع الكاتب، وإن شابها أيضاً بعض المشاكسات وصلت الى حدّ تهديده بالقتل.
تقدم الرواية قراءة مختلفة لمدينة رام الله والتقلبات الاجتماعية والسياسية التي واكبت صعودها لتصبح المدينة الأكثر شهرة في الأدبيات الفلسطينية خلال العقدين الأخيرين، وفي ذلك تتويج لسياسة عاشها الفلسطينيون على وقع حوادث كثيرة جعلت من مدينتهم هدفاً للتعريض والانكشاف وليس مجرد دوار هنا ومقهى هناك.
يتبدّل هنا المسار الروائي المخلص لأصوات سابقة، معلناً عن تقديم صوت مختلف في فهم هذه الانقلابات التي تصعد المدينة الفلسطينية على إيقاعاتها. يرسم عباد شخوص روايته الثلاثة، رؤوف ونور (صهيب) ووسام بضمير المتكلم، لا بهدف محوها، وإنما لتعلن عن نفسها صراحة بأنّ ثمة ماهو مخفي في اللغة على رغم وجوده بين أهل هذه المدينة المعرّف بها بوصفها الملجأ الأخير للسياسة والثقافة الفلسطينيتين، قبل أن تغادرها الصفتان جزئياً مع ضجيج أكبر غير محتمل.
تقع جريمة قتل في حي الماسيون، أحد أرقى أحياء مدينة رام الله. الجريمة هذه تمسّ في شكل أو آخر شخصيات الرواية، لكنّ حجم التقلبات النفسانية التي تعيشها هذه الشخوص تضع كل واحدة منها على سكة سرد مختلفة. ثمة من يحضر من خلال السرد في الزمن الماضي ليكشف عن علل المدينة التي لا يريد أحد الكلام عنها لهدف سياسي، وهناك من يقابل الزمن الحالي بانكساراته الشخصية في مكان متشاوف ومتعال عليه، اذ يغرق في اكتشاف جسده قبل أن يغـــرق هـو نفسه في جريمة لا يد له فيها، بحيث تتكشّف علاقاته المثلية بنتيجة التحقيقات ويتم افتضاح أمـــره اجتماعياً على أيدي رجال الأمن الذين يقعون فريسة جريمة غامضة «توجع رؤوس قادة الفروع الأمنية، مايدفع بهم الى البحث عن أي قاتل محتمل». جريمة قتل الصبية ( ر- س) البالغة من العمر 29 سنة بسكين مجهـــول لدى خروجها من «بار لوتس» في هذا الحي الراقي برفقة صديقها تعيد الى السرد الروائي مهمته الأساسية في الرواية. ففي حين ينسى وسام هاتفه النقال في بار أبو وليم ويعود لإحضاره تلمع سكين في الظلمة ويتبــع ذلك صــرخة قوية من الصبية، وقد أفاد تقرير تشريح الجثة الجنائي إن شرايين قلبها تفجرت نتيجة الطعنة.
هذه الجريمة أدت بوسام الى شلل مكاني، فلم يقوَ إلا على البكاء غير المسبوق، وهو الأمر الذي يحير رجال الشرطة المشغولين بتغيير معالم مسرح الجريمة قبل أن يزداد اللغط حواليها، ما يكشف عن عجزٍ وقناعة في الوقت عينه بأن المجرم ليس وسام، الذي يدخل في حوار عقيم مع طبيب نفساني قادم من أميركا عن الذكريات قبل أن ينتهي بانتحاره شنقاً على شجرة.
إلقــاء القبض على نور، في مقلب الجريمة ذاتها، بوصفه العامـــل في البــار الليلي الذي سهرت فيه الضحية مــع صديقها يكشف عالمه الأثير. فهو قضى وقته ساهراً على جســـده، ساعياً الى اكتشافه، ليعلن أخيراً عن «مثليته» في مجتـــمع لا يقبل به اطلاقاً، فيصير يتنقّل بين رجال بوجـــوه وآخرين بلا وجوه. وهو لن يعرف منهم سوى رؤوف والشــاب الفــرنسي آرنو، أما الآخرون فلا حضور لهم إلا من خلال السرد المعلن لكل ما يقارب مثليته المقموعة.
يُعيد رؤوف صياغة مفاهيم صهيب عن الحياة في كل شيء، ويدفعه لاكتشافات غير مسبوقة في علاقاته الحميمة، علماً انه هو من أطلق عليه اسم نور في البار الذي عملا فيه معاً. وقد غيّر كثيراً من قناعاته التي لم يكن ممكناً تبديلها لولا أنّ نور انتهى الى فهم مختلف للمأساة التي أضافها الى حياته، وأضاف معها تعقيداً لم يكن مألوفاً له من قبل. وكانت مهمة تبسيطها مسألة في غاية التعقيد، فلن يكون تصالحه مع جسده قبل تصالحه مع قناعاته المتفجرة الا بمثابة شق طريق مختلف في المكان ذاته: بعد تشعب التحقيقات بجريمة مقتل الصبية، وهي الحادثة التي كشفت معظم علاقاته المثلية مع الآخرين نتنبه الى مصير رؤوف الخطيب الذي يغرق في سرد ماض عن التاكسي الذي يستقله من جامعة بيرزيت الى مدينة رام الله، كأنما يؤذن بذلك الى تعميق الخط الذي تعيش من خلاله المدينة بتسيير شؤونها الى الماضي القريب الذي تنشأ من خلاله الذكريات.
أما دنيا التي يلتقي بها في التاكسي فتُشكّل مفتاحاً آخر لهذا السرد الذي لا يــريــده أحد في أمكنة مقموعة ومسيرة بعكـــس مايقـــوم عليه حاضر الشخصيات نفسها. يظــل اسمها مجهـــولاً حتى يكتشفه من خلال تقرير تلفزيوني تقـــدمه من خلال محطة فضائية تعمل فيها. حينها يعرف أن دنيـــا عبد الباقي مختلفة تماماً، كاختلافه هو عن مصيره حيـن يقـــرأ نور أن رؤوف الخطيب الذي اختفى من مدينة رام الله اعتقـــل في اسرائيل مع مجموعة بتهمة التخطيط لـ «عمليات ارهابية». من يقول غير ذلك، أو يعيش على وقـــع سردي مختلف: العائلة التي تتقاسمها هموم حركة حماس، ونشاط عقل أبيه التجاري المتقلب بين التنظيمات الفلسطينية وفق لون -ونوع – تجارته.
حتى الصورة العائلية لا تنجو من فرضية التبدل حين تبدو وكأنها صورة قديمة من مجتمع فلاحي منقرض على بوابة مدينة غامضة. كل ذلك يأذن بتعريفات غير مسبوقة لتقلبات عائلية ومجتمعية تعيشها مدينة رام الله أيضاً التي تمضي نحو تشدد يكشف عن نفسه من خلال التعامل مع حوادث انتحار الفتيات التي تزداد وتهز شباكها في العمق اذ يكشف عام 2012 وحده عن محاولة 312 فلسطينياً الانتحار معظمهم من الفتيات.
أما جريمة الشرف التي تهز حي الماسيون الراقي فستغير في مصائر الشخوص التي تتكلم بضمير المتكلم الى الأبد. يغير آرنو بيرير مصير نور أيضاً حين ينقله الى فرنسا ويقدمه من خلال فيلم وثائقي وكتاب عن مغامرته مع اكتشاف جسده ومثليته التي «تتصدع في بلد خطر» مثلما تتصدع مدينة كاملة على وقع جريمة لا يراد لها حل.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى