استكمالا للسجال حول معرض يوسف عبدلكي الأخير في دمشق
تتابع «القدس العربي» نشر النقاش حول معرض التشكيلي السوري يوسف عبدلكي الذي أقامه مؤخرا في دمشق وأثار موجة من ردود الفعل في الوسط الثقافي السوري. ففي حين رأى مؤيدو عبدلكي أن المعرض محاولة جريئة لكسر العزلة التي يعيشها الداخل السوري، رأى معارضوه أنه خطوة تخدم النظام لتزامنه مع حملات التهجير الطائفي التي تشهدها البلاد، لاسيما حلب وأطراف دمشق.
هنا وجهتا نظـــــر حول معرض عبدلكي، الأولى للمخرجة ريم غزي التي رأت فيه فعل مقاومـــة، والأخرى للمعماري حكمت شطا الذي رأى فيه تراجعا عن موقفه السياسي لاسيما بعد عودته إلى دمشق.
مقاومة في سنوات عجاف
ريم الغزي
«من ذاق عرف»
ابن عربي
أردت أن أكتب اليوم، ليس فقط لأن الواقع الذي تعرفت فيه على شخص يوسف عبدلكي هو نقيض جلّ ما كتب هذه الأيام عنه، وليس من أجله وحده، بل لأن في الموقف ككل ما يجعل الجميع معنيّا بما يجري، خاصة منذ أن انفصلنا في الجغرافيا عن بعضنا كسوريين.
وأبدأ باعتذاري عن جهلي بالسياسة، وأستأذنكم في الانتقال إلى زاوية أقل «اشتباكا»، للرؤية. هل نستطيع فعلا أن نتبادل الأماكن لنشعر ببعضنا؟
هنا، معظم الذين حضروا المعرض، في دمشق، هم المقصيون (طوعاً) عن كامل نشاطات المجتمع «الثقافية/الفنية»، لعدة أعوام. هؤلاء، بالإجماع، شكروه على الطاقة التي منحهم إياها للخروج، رغم جحيم احتمال كل ما لا يطاق وصولا إلى الفرصة للقاء. خرجوا من عزلتهم، من موتهم السريري. كان المعرض باختصار: «وحدة أقلّ». ومقاومة، (ليس بالمعنى السياسي، لأني لا أفقه فيها شيئا)، بالمعنى الحياتي المعيشي.
إسمحوا لي أن أطلب منكم الجلوس أمام ساعة، وأن تحدّقوا بها، لأربع وعشرين ساعة متتالية. أنت معطّل عن الحياة تماماً، على كل الأصعدة، من البشري الفيزيائي إلى الروحي. من شدة البرد، أو شدّة الوحدة، أو شـــدة الغــلاء، أو شدة الشحّ، أو.. أو..
هل بإمكانك أن تتخيل حجم المقاومة المطلوبة لتستمرّ في يومك الواحد، لن نتحدث عن سنوات؟ مجرد فكرة وجوده هنا، تعطيني قوة. ليس انتقاداً سلبياً لمن لم يبق في البلد، ولا إيجابياً لمن بقي، إذ لكلّ طاقته وتجربته، وآلامه، والجميع دفع بلا استثناء «ثمنا». وإنما، من مبدأ فيزيائي بسيط: الموجود خارج البقعة الجغرافية التي تجري فيها الأحداث التي أعيش، كيف له أن ينقذني الآن، هنا، هذه اللحظة، أن يمسك بي قبل أن أتعثر؟ مستحيل. هل هذا إيجـــــابي أم ســــلبي، ليس هو السؤال. أليس الجوهر في موقف كهذا أنّ حياتي على المحك؟ مستفزّ كل هذا الـ«خارج»، «داخل»، تدميري بحت، ويُنكر العدل للطرفين. وكلانا في ألم. لكن هـــل يستوي من يحيا مهدداً كل ثانية بالموت، ومن لا يطاله التهديد؟ ثم هل يمرّ موت الأول سهلاً على الذي نجا؟ اشتد أم خفت، هو ألم. هل من العدل أن نرى النشاطات التي تمّ إحيائها خارج سوريا، جريمة؟ هل يجب أن ننظر إليها على أنها لا تليق بالموقف المهيب للموت اليومي؟ ومهرجانات الموسيقى الغناء كل من استمر في حرفته ولم يتحدث عن «القضية»؟ ألا يحتاج السوريون في الخارج إلى «مناخ»؟ «حاضنة اجتماعية»
إلى «الوجود»؟ في عالمٍ لا يقوم على شيء إلا «الإلغاء»؟ هل كل ما يحضرون عن «القضية»؟ هل تستحق أنت ما لا أستحقه أنا؟ أنا هنا.. حيّة أرزق.. لماذا الوأد؟ لديك الكثير لتقاوم به «مرار» يومك الواحد.
كان لنا: «معرض». في خمسة أعوام عجاف. والجيل الذي يتقدم اليوم، هنا، بكل السموم التي ابتلعها عن «الأزمة»، من له؟ لو لم نر ونقرأ من كانوا هنا يوماً في الثمانينيات، لو لم يستمروا حينها، ما وصلَنا «التاريخ» كما جرى.
فكيف يُفهم «الاستمرار» على أنه خدمة لـ«النظام الحاكم»؟ هناك وجهٌ آخر للأمور، أرجو أني استطعت رسمه.
أما المعرض، الذي لم يكن بالمناسبة حصرا على الموضوعة الجديدة في أعمال عبدلكي، «العاريات»، لم يتحدث أي منا عنه، عن اللوحة، عن الفن، حتى اللحظة. انشغلنا جميعا بـ»الحدث»، في حدّ ذاته، لأنه «حدث».
رغم رفضه الرعاية والمقابلات على المحطات المحلية متحديا إياهم أن يستطيعوا بث كامل ما سيقول، وعن لماذا هو اليوم، يقف في ساحة الحدث، كفاعل. تماما، كما تقف أنت في كل يوم، وفي كل ساحة ممكنة، تاركا كل النعيم الذي تستطيع أن تهنأ به، لتكون فاعلاً، علناً، قدوةً، ترسل لنا طاقة لنستمر، وألا نيأس: أنت معنا. قبل هذا الجدل لم أفكر في موضوع المعرض، كنت أمعن البحث في جواب واحد: كيف استطاع أن يعمل؟ تحت هذا الجحيم اليومي، من اللاشيء واللاأحد؟ وإن حاولت التفكير في «العري»، الموضوع الجديد في أعمال الفنان التشكيلي السوري يوسف عبدلكي، هل هناك ما هو أقوى منه، في «الرّاهن» الذي نمرّ به؟ في تلك اللوحات، شيء ما مؤلم، رغم الرّقة والجمال. العيون، المرسومة بلا حدقات، مجرد ظلّ. حزنٌ لا هوادة فيه.
الأجساد مقتطعة من كل ما حولها، وحيدة، هشّة. لا حياة ولا موت.
إحدى تلك اللوحات كانت بلا رأس وبلا أقدام، فقط مواطن الجمال، بلا تتمة.
ولا مبالاة، في كل تلك الملامح الرقيقة، تشبه ما يُعاش هنا، ولا أعرف كيف أصفه. أنت وأنا نستمر اليوم (أحياناً) فقط لأننا نتنفس. شيء ما من هذا العبث هو ما رأيت. وفيها رغم كل هذا وذاك، تحدّ صاخب الصمت. وجود، وبقاء.
لم يحدث ما حدث اليوم حول هذا المعرض، فقط، بل يحدث كل يوم منذ أن تغرّبنا عن بعضنا، وكأن ما يجري لا يكفينا. لا شيء حاوله السورييون منذ 2012 إلا وانشق عنه البعض ليعيدوا المشكلة ذاتها، ويعودوا بعدها أيضاً للانشقاق إلى كتل أخرى، وهكذا دواليك.
«وظلا هكذا حتى انقرضا»، هل تذكرون هذه النكتة السوداء؟ في يوم من الأيام، كان قبلـــنا جيل، بقي، رغم «الشدّة»، استمرّ في كل المجالات، بكل ما أوتي من أمل. وهذا حينها، لم يهدم تاريخ من غادروا، ولا تاريخ من بقوا. هل تذكرون؟ من ذاق عرف.
اليوم، أينما كنا، نعيش: «كالقابض على الجمر». وهذا «الفنان السوري»، هنا، الآن، رسالته التي قرأت: «أهمّ من الإيمان، الثبات عليه».
٭ مخرجة سورية ـ دمشق
تبدّلاته و«عاريات دمشق»
حكمت شطا٭
قدّم الفنان التشكيلي السوري يوسف عبدلكي (1951) في معرضه المقام مؤخراً في دمشق مجموعة من الأعمال الجديدة المنفذة بحرفية عالية، تتألف من 28 رسماً تكسوها طبقة من الرماد الأسود، لكنها أجساد بلا ابتكار، تبدو نمطية ومكررة، وكأن شيئاً من الاستسهال طغى على ذلك النتاج الفني، بحيث بدا المعرض، الذي حمل اسم «عاريات»، وكأنه ذروة لتراجع ما ظهرت بوادره مع عودته لدمشق.
التأمل باللوحات يدفع للتساؤل إن كنا أمام معرض من عصرنا الحالي، أو هل نحن أمام مشروع يقوم على الرسم من أجل الرسم، وهل بالإمكان الاكتفاء بالصنعة المتقنة؟
يبدو أن عبدلكي يتكئ على شهرة من الماضي وجمهور محلي يرحب بكل ما يقدمه «بالفرح والسعادة». آلية عمله أصبحت بسيطة، يكفيه اتخاذ قرار في موضوع معرضه المقبل لكي يجلس كل صباح أمام ورقته البيضاء لتنفيذه.
في حال كانت الأسس النظرية والفكرية لمشروع عبدلكي اليوم تقوم حصراً على «البحث عن الجمال في أجساد النساء» فمن المؤكد أنه ليس على الطريق السليم. فـ»الفن فكر وليس رسماً». وأنا أشعر بأن معرض «عاريات» فيه الكثير من الرسم والقليل من الفكر. كذلك ليس بالوسع إلا أن نتساءل في توقيت المعرض في هذه المرحلة، كما يحق لنا أيضاً طرح بعض الأسئلة الأخرى: هل العاريات في مقابل المنقبات؟ وهل هذا تعبير عن علمانية دمشق في مواجهة سلفية الرقة؟
أجساد متفحمة
من بعد بداياته السورية الأولى لجأ الفنان إلى فرنسا إثر فترة اعتقال في أقبية النظام دامت حوالي العامين. ومن منفاه الباريسي، الذي استمر لقرابة الربع قرن، استطاع عبدلكي الحفاظ على تواصله مع جمهوره السوري من خلال معارض دورية كان يقيمها بلا انقطاع في وطنه. الشحنة السياسية والطاقة الثورية الكامنة في أعماله الحفرية في ذلك الوقت كانت التعبير الأقرب لما يمكن أن نسميه بـ»الفنان السياسي الملتزم». كنا أمام ظاهرة لا مثيل لها، فنقاؤه الثوري جعل منه
رمزاً لشريحة واسعة من شباب البلد. ملامح من التراجع بدأت تظهر مع عودته إلى دمشق منذ حوالي العشر سنوات. التنوع الغريب في مواضيع رسومه، من رؤوس الحيوانات المقطوعة إلى النباتات والورود، مروراً بأحذية النساء، كان يوحي وكأنه يحاول تقديم تشكيلة متنوعة ترضي جميع الأذواق. تنوّع رسومه جعلني في حالة من الضياع أمام مغزى هذا المشروع، على الرغم من بساطته الظاهرة، التي تبدو مفهومة من الجميع.
في هذه المرحلة (الدمشقية) تخلّى عبدلكي عن الحفر على المعدن لحساب الرسم بالفحم، كما تخلّى بشكل متدرج عن الشحنة السياسية حتى وصوله للأجساد المتفحمة. ظاهرة التحول عند بعض مثقفي أوروبا من الماركسية نحو الليبرالية مع التقدم بالسن المرافق للاستقرار المادي والمعنوي معروفة من الجميع. في الحالة العبدلكية كل الدلالات كانت تشير إلى حدوث مثل هذه التحولات في مساره وعلى الأرجح فإن «عاريات دمشق» ليست سوى التعبير الأمثل لهذه التبدلات.
حول سوق الفن التشكيلي العربي
للمصادفة ترافقت عودة عبدلكي لدمشق مع دخول صالة «كريستيز» اللندنية سوق دول الخليج، ما أدى إلى ارتفاع جنوني لأسعار الفن العربي، الذي وصل في بعض الحالات إلى عشرة أضعاف السعر الأصلي في أقل من عامين. من هذه اللحظة لم يعد بمقدور غالبية السوريين اقتناء الفن السوري، بما أن الأسعار أصبحت تتماشى مع القدرة الشرائية لأهل الخليج. بالمقابل الظاهرة نقلت مجموعة من الفنانين العرب بسرعة قياسية إلى خانة طبقة الأغنياء. فعلى سبيل المثال، يبدو أن أحد الفنانين السوريين أصبح يبيع اللوحة الواحدة في دبي بثلاثمئة ألف دولار. بالطبع، الثمن لا علاقة له بالسوية الفنية في سوق يطغى عليه الجهل. في دردشة مع تاجر فن حكى لي كيف أن أحد زبائنه كان يسأل عن فنان بعينه، من دون أن يعير أي أهتمام بالعمل الفني، أو كيف أن الثمن يتحدد مع حجم الطلب من أكبر شريحة ممكنة من الزبائن.
الفن التشكيلي بين مسارين
الفن التشكيلي في العالم يتحرك على مسارين قد يلتقيان أحياناً وقد لا يلتقيان أبداً، الأول فكري والثاني تجاري. المسار الفكري والذي يشمل جميع المؤسسات والمتاحف والتظاهرات الفنية له معاييره التي تحددها نخب المختصين والقائمين على مؤسساته، من خلال التراكم المعرفي على مر العصور، وبالتالي هم وفنّانوهم من يرسمون الخطوط العريضة للتوجهات المستقبلية للفنون وتداخلاتها.
في قمة مؤسسات هذا المسار نجد على سبيل المثال متحف «موما» في نيويورك، متحف «تيت» في لندن، مركز «بومبيدو» في باريز، ومتحف «همبرغر بان هوف» في برلين. والمسار التجاري يشمل جميع الغاليريهات في العالم التي تهتم بتسويق الفن في سبيل الربح المادي. للغاليريهات مستويات متفاوته جداً، من الدكاكين الصغيرة إلى كبرى الصالات التي غالباً ما تستقطب فناني المسار الفكري.
فيما يتعلق ببيروت يمكن أن نذكر على مستوى المسار الفكري «مركز بيروت للفن» وجمعية «أشكال ألوان»، وعلى المستوى التجاري «زملر- صفير» الغاليري الأهم.
من بين الفنانين العرب الذين حظوا بمكانة مميزة على الخريطة التشكيلية العالمية يمكن أن نذكر بالفلسطينية منى حاطوم واللبناني وليد رعد والمصري حسن خان.
وليد رعد (1967)، الذي أقام له متحف الفن المعاصر في نيويورك «موما» عام 2015 معرضا استعادياً كبيراً، يتناول في مشروعه الشهير «أطلس» العلاقة بين الأرشيف والتاريخ والذاكرة الجماعية والفردية، والعلاقة بين المتخيل والواقع للحرب الأهلية اللبنانية.
أثناء تنفيذ رسومك في دمشق، لماذا السوري شريف كيوان (الناطق الرسمي لأبو نضارة) بلا كلية فنون، ولا أي إلمام بالرسم ينجز مشروعه الطليعي والمبتكر خلال ستة أعوام من المجهود الخارق، ليدخل أكبر تظاهرة فنية في العالم الصيف المقبل «دوكومنتا» مدينة كاسل الألمانية؟!
الجواب بسيط: «هو ابن لعصره وأنت من خارجه».
(القدس العربي)