ريجيس دوبريه… عندما يكون السجن حرية ونافذة خفية على العالم
أوس حسن
ربما نسأل أنفسنا أحيانا ما هي الأشياء الحقيقية في هذه الحياة؟ الأشياء التي تستحق أن نعيش من أجلها ولأجلها، أن نمارس كينونتنا بحرية تامة بعيدا عن مرايا الآخرين.
في خضم هذه التحولات الكبرى والسريعة التي يعيشها العالم في زمن تسليع الحياة والإنسان وتحويله إلى آلة مبرمجة، لا بد لنا أن نجد فسحة جمالية نعود بها إلى ذواتنا، وربما لا نجد هذه الفسحة إلا في الأوقات العصيبة والمصيرية التي تمر بنا أو تهدد وجودنا كالعزلة القسرية أو المرض أو السجن، عندها يصبح الإمساك باللحظة الراهنة المعاشة إبداعا وتجليا روحيا خاليا من الأوهام التي يخلقها العقل الذي يشوه كثيرا من إدراكنا الحسي، وعلاقتنا مع العالم الخارجي. فـ«ميرسول» بطل رواية «الغريب» لالبير كامو لم يعش حياته الحقيقية كما ينبغي، ولم يفهم ذاته فهما عميقا إلا في الأيام الأخيرة في سجنه، فكان يستمتع بأبسط الأشياء في زنزانته ويتماهى معها، كخيوط الشمس التي تتسلل كل صباح من نافذته، ومراقبة النجوم والأضواء اللامعة في السماء. هذا التماهي مع العدم ونكران الذات هو الذي منحه تلك السعادة الغامضة والسحرية، التي جعلته يرفض استئناف المحكمة مرة أخرى.
كما نجد هذا واضحا ومتحققا في روايات دستويفسكي، خصوصا تلك التي كانت تسلط الضوء على العالم الداخلي للنفس البشرية واضطراباتها، فدستويفسكي نتيحة معاناته الدائمة مع مرض الصرع واقترابه من لحظة الموت في سبيريا جعلته مشرحا سايكولوجيا للنفس البشرية، فكانـــــت رهافة دســـــتويفسكي تزداد مع إحساسه بعذابات الناس وآلامهم، كما أن عدم كمال هذا العالم دفع بدستويفسكي للولوج إلى جوهر الخير والشر عند الإنسان، من خلال تأمله للرغبات والدوافع المكبوتة ورسم شخصيات مشحونة بجو من صراع التناقضات والثنائيات وما يرافق هذا الصراع من أقدار ومصائر.
«مذكرات بورجوازي صغير بين نارين وأربعة جدران»
قد يتساءل القارئ هنا ما الفائدة من العودة لقراءة كتاب من الأدب الماركسي في زمن موت الإيديولوجيات ونهاية التاريخ وصدام الحضارات؟ هل علمنا الأدب الماركسي أن نفكر بطريقة صحيحة وسوية فعلا؟ هذا ما سيجيبنا عليه ريجيس دوبريه الكاتب والمناضل والفرنسي الذي اعتقلته القوات البوليفية بعد مقتل تشي غيفارا، وحكمت عليه بالسجن لمدة عشرين عاما، ولكن انقلابا حدث عام 1970 خفف عن دوبريه قيود الزنزانة فسمح له بأن يقرأ ويكتب. فكان كتاب «مذكرات بورجوازي صغير بين نارين وأربعة جدران» هو ثمرة أفكاره وتأملاته في السجن.
«سيكون المرء قويا بالوهم في العشرين من عمره، وقويا بزوال الوهم في الأربعين»
«يجب على المرء أن ينسى أن الزمن هو المقياس الوحيد للقيمة».
هكذا تكلم دوبريه في سجنه وهو يواجه مصيرا مجهولا، فهذه المقاطع وغيرها من مذكراته في زنزانة كاميري في بوليفيا؛ ليست فقط تحطيما للأوهام الماركسية والإيديولوجية وإنما إضاءة على العزلة التي يعيشها الإنسان بين أربعة جدران. يمكننا القول إن الكتاب مرآة سايكولوجية فيها من الدموع والألم والندم الشيء الكثير، وفيها أيضا لحظات متوهجة بالأمل والتفاؤل بعالم جديد، فهي تارة تقترب من اللغة الشعرية في التوصيف والتجريد، وتارة تخاطب المثقفين والفنانين والشعراء بصدق واضح وحلم برؤية غد أجمل. فبدلا من أن يكون السجن حافزا لليأس والإحباط والانتحار، أصبح عند دوبريه نافذة خفية لرؤية العالم وجماله، من خلال مخاطبة نفسه والآخر، فقد تناولت هذه المذكرات مواضيع عديدة في الأدب والفن والسينما وعلم النفس، وهو الداعي إلى تحرير الفنون والآداب من السلطة ورقابتها، وخلق واقع موازٍ للواقع يحاكي الهم الإنساني على هذه الأرض. لذا لم تخل مذكراته من عين الناقد المتفحص والمثقف العميق، فهو يجري تشريحا دقيقا لروايات كبار الكتاب العالميين ويستنطق أفكارهم كدستويفسكي والبير كامو وستاندال ومارسيل بروست وغيرهم، بل يخلع الأقنعة الملونة عن بعض الأدباء ويكشف زيفهم أمام التحدي المصيري الكبير الذي يواجهه الإنسان.
إن فكرة النضال عند دوبريه تختلف بعض الشيء عن الكلاسيكيات الماركسية واللينينية، نستطيع أن تبين تأثره بأفكار وفلسفات أخرى كالعدمية وبعض الرؤى النيتشوية «رغم أنه أدان الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه بشدة واعتبره أحد الرواد الإيديولوجيين للفاشية). يرى صاحب كتاب «ثورة في الثورة» ومنظر علم الميدولوجيا أن الإنسان جزء من الطبيعة، وهو محكوم بالعدم، فالكفاح والتضحية من أجل أن يحيا البشر بسعادة؛ رسالة تستحق العيش من أجلها، وهنا يكمن مفهوم البطل عنده لكن بلا ضجيج ولا عناوين ضخمة ولا ألقاب. وفي مواضع عديدة يدعو الإنسان إلى نكران الذات وتمزيق الأقنعة الاجتماعية الزائفة التي تفرضها الهوية والعقائد والموروثات، لكن هذه الطوباوية الحالمة التي يتسم بها دوبريه لا تنفصل كثيرا عن يوتوبيا ماركس وأنجلز في تحقيق الفردوس الموعود على هذه الأرض، بل يمكننا القول إنها رسائل وأفكار متممة لها، لكنها متلائمة مع متطلبات العصر ورؤاه الجديدة.
هذه التجليات المضيئة للروح الصوفية عند دوبريه تظهر في العزلة بقوة ووضوح شديدين، ففي جوانب كثيرة نراه يتكلم بحكمة العارف الزاهد عن أمور شتى في الحياة، كالحب والجنس والسياسة والدين. هذا الإرث من مذكرات السجن يجب أن يحظى بمزيد من الاهتمام والدراسة؛ لأنه جزء من دراما الحياة ومن تراث الأدب الفلسفي الذي سيبقى خالدا في الفكر الإنساني. عن السعادة واللحظات الحقيقية يتكلم دوبريه: «إن ما يسمى حقيقيا بالنسبة لفرد، هو هذه الحقبة من حياته المتطابقة مع الفكرة التي كونها عن الحياة، حين يحس حياته ترتفع وتتساوى ذات لحظة مع جوهره الحميمي. إن لحظة السعادة أو الحقيقة هي اللحظة الفارقة التي نستطيع أن نمارس ملكاتنا الحيوية التي نضحي من أجلها بحياتنا المادية».
إن استعادة براءتنا المفقودة تكمن أحيانا في ارتهاننا لزمن لم يعد موجودا، فعالم البساطة والنقاء انهار أمام توحش الرأسمالية، والأسئلة الأخلاقية الكبرى التي تعصف بعصرنا، عصر العولمة والثورة المعلوماتية.
قراءتنا لرسائل ومذكرات المثقفين الأممين في السجون وتحت سطوة الجلاد؛ تمكننا من الإمساك بالمعنى وبالحياة التي تتسلل هاربة منا في كل لحظة، فالوعي الكامل بالحضور واليقظة الداخلية يواجهان شتى صنوف التعذيب والعبودية، ويقهران الموت والخوف المترسب في أعماق وعينا. بهذه الأسطر يختتم ريجيس دوبريه مذكراته ورسالته في الحرية التي ستبقى محفورة في قلب العصور وعلى مر الأجيال القادمة:»إن العالم هو كوكبة من الخلايا الصغيرة مقفل عليها مع سجين خلف الباب الذي يموت في الليل والصمت، كوكبة من الحيوات المطفأة التي تحتاج إلى إنعاش. وهناك دائما في مكان ما من المعجم، في أعماق قلبك، كلمة ترقد بانتظار أن تطلق سراح سجين، انتفض وأيقظها».
(القدس العربي)