تزفيتان تودوروف… سكينة المنفي وقلق المثقف

رامي أبو شهاب

لا تأتي الكتابة عن تزفيتان تودوروف الذي رحل عن عالمنا الشهر الماضي باعتبارها فعلًا من أفعال التكريم، أو للبحث عن مساحات نظللها كي تكون علامات على إنجازات ميزت مسيرة هذا الناقد والمفكر، فالكتابة بهذه الوضعية لن تتيح سوى التعريف بتودورف لمن لم يسمع به، ونقصد القارئ العابر، أو ربما القارئ الذي لم يعرفه تمام المعرفة، بحيث لن تضيف له هذه المقالة أو الكلمات شيئا، ومع أن تودوروف يعدّ استثنائيا في الثقافة العالمية المعاصرة، غير أن الكتابة عنه تأتي من كونه قلقاً، مهموماً بالإنسان، أو ربما لعله يبدو غير راض عن هذا العالم بأسره، على الرغم من أنه يبدو من النوع الذي يؤمن بالرضا الذاتي بمعنى القبول والامتنان للحياة بتكوينها البسيط ، أي بأنه ليس لدينا قدر آخر سوى أن نعيش هذه الحياة.
تودوروف الهارب من حدود القمع الشيوعي، لم يأت من وطنه خالي الوفاض إنما حمل معه قدراً غير يسير من فيض النظرية اللغوية بإرثها الذي يعود للشكلانية الروسية التي استطاع أن يترجمها، وأن يحدث أثراً في التكوين النقدي الفرنسي ممثلا بالبنيوية والأسلوبية الفرنسية، ومن ثم العالمية، تودوروف الذي لم يتجرأ ليتعامل مع اللغة الفرنسية بلاغياً، كما كان أي ناقد أو مثقف فرنسي، فهو ليس ابن اللغة، ولهذا فقد كان يخشى اللغة في منفاه، مع أنه غرق فيها إلى حدود الوهم، وهكذا فقد شيئاً من اغترابه اللغوي، على الرغم من تعاليه النظري والمنهجي، وعلو كعبه، لا شك في أن لكل أنا إشكاليتها الخاصة، تلك العقدة التي تبقى كأنها لعنة أبدية، جرثومة، أو ربما المفارقة التي تحمل صاحبها إلى أن يعتلي الغمام، وهنا أستعيد رولان بارت الذي يعدّ علامة من علامات النقد والفكر في القرن العشرين، إلا أن مرضه حال دون أن يحصل على شهادة الأستاذية، وهذا منعه من أن يتقلد بعض الرتب الأكاديمية المطلوبة، ولهذا بقي خارج التوصيف الأكاديمي حتى السنوات الأخيرة، إلى أن انتخب في الكوليج دي فرانس، ولكنه سرعان ما توفي بعد ذلك بفترة وجيزة، لا شك في أن ثمة سحراً ما بهذا الفقد والنقص الذي يعاني منه المبدع، سواء أولئك الذين لا يمتلكون جزءاً من الامتلاء القدري (الحظ) الذي يتوفر للبعض، على الرغم من فقدانهم للموهبة والإرادة، غير أن التاريخ على ما يبدو يبقى وفياً لهؤلاء (التعساء) فهو سرعان ما يبقي على الأسماء التي تستحق أن تبقى في حين تتسرب الأسماء الأخرى من ثقوب المصفاة، وهنا أذكر على سبيل الذكر هيغل الذي بقي حتى الأربعين يعمل مدرساً، ومديرا لمدرسة قبل أن يتحصّل على منصب في الجامعة التي دخلها من الباب الضيق.
لا ريب في أن تودوروف ليس نتوءاً معرفياً زائداً على الرغم من أنه بدا وجودياً هكذا، وذلك بوصفها بلغاريا، قدم من صوفيا إلى فرنسا ليتعلم فيها، ولكنه سرعان ما أدرك أن وطنه غير صالح، كما هي معظم الأوطان التي لا تملك من معنى الوطن سوى القيمة المعنوية، ولكنها على مستوى التطبيق فإنها في حالة إرجاء مستمر، هكذا خرج تودوروف من موطنه، كما يذكر في أحد لقاءاته؛ لأنه أدرك أن حدود الكون بات أضيق من أن يتسع له في فسحة تدعى بلغاريا، ومع أنه أحب وطنه، ولكنه أحب فرنسا أيضاً، فرنسا التي تمتلك شيئاً من السحر والجاذبية، فحضوره في أرض جان جاك روسو الذي كتب عنه، كان أشبه بقيم عجائبية تفوق تودوروف في تفسير منطلقاتها المنهجية، وتفسير ميكانيك تمظهرها في السرد، ولعله كان يعي ذلك حين حضر في فرنسا، إذ عاين شعوره أو تردده بين الحقيقة والخيال، بين الواقع والوهم، بين الحرية والقيد، بين القبح والجمال. هكذا تشكل عالم تودوروف باحثا في عالمي اللغة والأدب، وبينهما كان يسعى إلى إيجاد تكوين أو صيغة عقلية يهدم فيها غيبية الأسطورة، وأن يجعلها أقرب إلى منظومة لها أسس علمية، تنطوي على قاعدية، لا تنفلت، مجموعة منهجيات، وأنساق، أو شعريات استهلكت حياة الرجل لعقود وعقود، فوضع كتبا في الشعريات، وغيرها من الكتب التي كانت تهدف إلى تحقيق مبتغى الأدب في الأدب، أو الوصول إلى منظومة نسقية، أو متعالية من الذهنية المجردة لعالم يمكث خارج حقيقة الأدب، ولطالما بدا هذا الأمر بوصفه خطيئة بعد عقود من الممارسة – إذا جاز لنا التعبير- على الرغم من أنه ليس كذلك.
في العقدين الأخيرين أدرك تودوروف في ما بعد أن هذا العالم ليس بالبساطة التي يعتقد، فليس العالم نظاما وبنى وأنساقا، كما أن هذا العالم بات يمضي إلى أسئلة أكثر تعقيدا، ولهذا بات حضور التاريخ منحى أشد جدلية، فنجد كتاباته المتأخرة تقترب للتأمل في الإنسان ومسالكه، فبدأ يستنطق الجرائم التي حدثت في الحرب العالمية الثانية، والإبادات التي مارسها المستوطنون والمستعمرون والخوف من الآخر، لقد اتخذت تأملات تودوروف توجهاتها الجديدة أو طابعها من تقييم الخارج، ولا أعني هنا سوى العودة للبحث في تفسير تموضع الإنسان بوصفه مركزا، بعد أن نزعته بعض المنهجيات الألسنية كردة فعل على السعار الأيديولوجي الذي تسبب في فناء ملايين البشر في حربين عالميتين، وماض كولونيالي قاتم، واحتدام الجدل حول تموضع الدين والإرهاب.
إن خوف البشر من الحروب دفع إلى البحث عن كل ما من شأنه أن يقضي على الأيديولوجيا، ولكن الإشكالية التي نشهدها الآن تتمثل بالعودة التي استدعت من ناقد لطالما انشغل بالتقييم النسقي للتحول نحو البنية الإنسانوية التاريخية، كما الانخراط في النقاش الحضاري والثقافي حول مشاكل البشر، وتعالي الكراهيات في هذا العالم، هي حاسة المثقف وبوصلته، ذاك الداء، الذي يعاني منه تشومسكي، وبي داو، وساراموغو، وغيرهم، ليست الحقيقة إذن كما يستنتج تودوروف في كتابه «الأدب في خطر» الذي يبدو أشبه بنكوص خطير لتاريخ من الفكر، بحيث يتحول إلى نقد يطال آلية تدريس الأدب في الجامعات والمدارس التي ما زالت معنية بقواعد الأدب، والبنى، والأنساق، والهياكل المجردة، والنظريات، في حين أنها تتجاهل بأن حقيقة الأدب تكمن في دوره الإنساني، أن يقوم على ترويض النفس، واكتشاف القيم، والحب، والفن، والجمال، والأهم، أن يجعلنا ندرك العالم، ولكن عبر منظور جديد ومغاير عما هو مألوف، فالانحراف عن التأمل أفسد الأدب، كما نعاين في عالم أعطبته موجات وموجات من التقنين التقني والبصري والنسقي، فبين تسارع وتسارع، ثمة تسارع، مما يعني بأن الوعي لتكوين المنظور والتأمل بات في وضع المستحيل، وهكذا أمست دراسة الأدب عبارة عن عملية قـــــوالب، أو أنماط جاهزة، نظريات، وأدوات تحــــليل، مقاربات تقود إلى نتائج، ربما يكفي أن تدخل معطيات ما لحاسوب ما ينتج نص، وربما يكفي أن تعطي حاسوباً ليخرج بنقد لنص ما، كما يمكن لكتيب أن يقود طالب ضمن بنى مجردة ليخرج لنا بمقالة، أو قصيدة، أو حتى رواية تخلو من الروح.. فنحن أمام عصر سوف نتخلص فيه من الإنسان الذي يقـــود السيارة، كما الإنسان الشريك، ومن قبل قد تخلصنا من الإنسان في بعض المصانع، كما أصبحنا لا نلتفت للشخص الذي يجلس بقربنا، لا ريب في أن تودوروف أدرك معنى أن يتحول التقدير المبالغ فيه للعنصر الظاهري لا للحقيقة الكامنة المتمثلة بالإنسان، على الرغم من أن الأخير يعد مصدر الشرور.
بغياب تودوروف ومن قبله إيكو، نكون قد فقدنا مساحة من التأمــــلات التي يحتاجها عصرنا، ولاسيما بقيمه المختلطة والغرائبية، ليس ثمة شك بأن الفكر النقدي المقبل لن يبدو كما كان … أو قبــــل عقود، ولا شك بأن عقـــــول كرولان بارت، وتوردورف، وإيكو، وجيرار جانيت، وجاك دريدا، ولاكان… ستبدو شديدة الخصوصية والتمــيز كونها شديدة الإنسانوية، والحساسية، في حين أن العقول المقبلة فإنها ستنطوي على أشياء لا يمكن أن نتوقعها… حتى تتمكن من صوغ مستقبل الفكر والثقافة في حال بقيا ضمن تكوينهما ومعرفتنا الراهنة ولم يتحولا إلى شيء آخر.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى