في اليوم العالمي… كيف نقرأ مستقبل الشعر العربي؟
صفاء ذياب
الإهمال الذي تلاقيه الكتب الشعرية عربيا بسبب عزوف دور النشر عن دعمها من جهة، وعدم توزيعها جيدا من جهة ثانية، جعل من الشعر وكتابته في وضع حرج.. ففي الوقت الذي تمارس فيه المؤسسات الثقافية والناشرون سلطتهم في دعم الرواية والاحتفاء بها، ما يؤدي لارتفاع المبيعات حتى على مستوى أعمال روائية ليست ذات أهمية أو قيمة فنية، تدير هذه المؤسسات وجهها للشعر- وإن كانت لأسماء مهمة ومعروفة.
كما أن استعمال مصطلحات الشعر وإدخالها في السرد والنقد والأجناس الأدبية الأخرى لم يسعف الشعر ولم ينقذه بجمهور بدأ ينفرط من بين أصابعه.
وتساؤلنا اليوم في يوم الشعر العالمي: بعد التحولات التي طرأت على الأجناس الأدبية عموما، وتسيد الأنواع السردية، فضلا عن إهمال الناشرين والقراء معا للشعر.. كيف سنقرأ مستقبل الشعر؟ وما الذي سيكون عليه مستقبلا؟
وشوشة الشاعر
يرفض الشاعر الفلسطيني محمد حلمي الريشة الاحتفاء بالشعر في يوم واحد من السنة، قائلا: إن الشعر أعيشهُ كل يومٍ، كما عشتهُ آنفا؛ بكل هيبته وهذيانه، ووقاره وجنوحه، وراحته ونصبه، فهو النصيبُ من حياة الشاعر في. مبينا أن الشعرُ نفسهُ لا يُعرفُ؛ كل تعريفٍ للشعر لا يعدو كونهُ تعريفا للتعريف. وهو أكبرُ من أن يقع فريسة السؤال: ما مستقبلهُ؟ الشعرُ لم يستطع أحدٌ ضبط تعريفٍ لهُ، بل كادت بعضُ الشروحات تقاربهُ ابتعادا ليس إلا. الشعرُ، في حد ذاته، عالمٌ جمالي قائمٌ بمداد ذاته، يستشف صورهُ من دُواة المخيلة المتيقظة. لكن ما يؤسفُ لهُ؛ ظهورُ كثيرٍ من متقولي الشعر ومدعيه؛ مرد هذا افتقادُهم للذائقة الجمالية، وانحصار ثقافتهم داخل حدود ذواتهم الضيقة، فيما أنهُ سهلٌ قيادتهُ كما يظنون، فما يفتقدونهُ هو وهجُ الكتابة، وإبداعيةُ القول الشعري حيثُ تتداخلُ الكلماتُ، فتضج السطورُ بصورٍ غارقةٍ في الإبهام الذي يجعلُ صورتهُ غير سلسةٍ بمرآة القارئ، أو بالمباشرة والسطحية، فيعزفُ عنهُ إلى الرواية لاسترسال السرد فيها تبعا لتطور وتصاعد الأحداث، التي صار لها صدى بالنتاجات الأدبية التي نال بعضُ كتابها حظا وافرا من الشهرة، بل هناك من سلك اتجاه الكتابة الروائية متنحيا عن الشعر. غير أني أقولُ: الشاعرُ الحق لا يستطيعُ إلا أن يظل شاعرا.
أما حول عزوف الناشر عن نشر الشعر، فيبين الريشة أن هذه مسألةٌ نسبيةٌ؛ إذ لطالما كان الشعرُ الإبداعي غريبا مغتربا؛ لأنهُ كتابةٌ مستقبليةٌ الآن، ينتظرُ قارئا قادما. لقد كتبتُ للشاعر: إحفر عميقا ما استطعت إلى ذلك سبيلا، واصطد في محيطٍ بإتقانك الصنارة والصبر، واعلم علم اليقين أن الشعر الذي تكتبهُ بدربةٍ وأناةٍ واحتراقٍ؛ ينتظرهُ قارئٌ في المستقبل، فلا تبئس، ولا تيأس، ولا تنتحر شعرا؛ لأن لغتك الشعرية لا تُكتشفُ في هذا العصر.إن معظم الناشرين تجارٌ؛ لهم أن يكونُوا هكذا بمنطق الاستمرارية، لا بشراسة الجشع، فالكتابُ كالرغيف، وبالمقابل عليهم أن يؤدوا دورهم التوعوي في آنٍ، لا أن يُساهموا في نشر السخافة لا الثقافة، والفج لا الناضج، والاتباعي لا الإبداعي.
ويؤكد الريشة على أننا أُمةٌ ما تزالُ تهوى سماع الحكايات، فهو التدريبُ الأولُ المرافقُ للذهاب إلى النوم سنوات الطفولة، ثم درج المعظمُ على قراءتها للتسلية لا أكثر، على الرغم من أننا أُمةُ شعرٍ، ثم أصبحت لاحقا أُمة مشاهدةٍ بعد إلقاء «القنبلة التلفزيونية» عليها. لذا، فالقراءةُ في عمومها بالنسبة إليها لا تستهويها، وإن صارت ميالة حديثا لقراءة الروايات (هذا ما دفع كثيرا من الناشرين للتركيز على نشرها لأنها تفيضُ ربحا)، ذلك لأنها تسردُ حكاية بلغةٍ عاديةٍ لا تأمل ولا مخيلة فيها، وهي أُمةٌ ليس لها وقتٌ لهذا وتلك. لكن، وعلى الرغم من هذا، فإن للشعر الإبداعي قراءهُ، وإن بنسبةٍ أقل، لأنهُ يسعى للارتقاء بلغة القبيلة، على حد قول الشاعر المبدع أُوكتافيو باث.
لا نهائية البحور
يرى الشاعر والمترجم العراقي حسين عجة أنه ما زالت الصورة الفيزيائية – المخيالية الأكثر قربا من «التجربة الشعرية» تتمثل بصورة فرد غريق وسط بحر شاسع ومُقلق بصمته، وهو يصارع، دون أمل كبير، أمواج ذلك البحر العاتية. صورة تقليدية لا شك. بيد أن عدم الشك أو اليقين الحجري هذا والأكثر تقليدية يُخولنا طرح سؤال الأطفال التالي: لماذا تحدث الأقدمون إذن، وفي كل لغات العالم، عن البحور الشعرية؟ بمحض الصدفة، أو لأنهم كانوا يخلطون عمدا ما بين لغة الطبيعة ولغة الإنسان. من الخطوة الأولى إذن، وحتى قبل أن يعرف ذاك الغريق مصيره، أظهر واضعو القوالب، مهندسو التقطيع وأهوال البحور، أو البحار، القوة الاستثنائية للمجاز، مجاز يخلق ويعيد توزيع الثراء الكوني وتداخل أبعاده من خلف ظهورنا، كما يبدو. وبحكم هذه العلة نفسها، كانت المجتمعات الإنسانية البربرية الأولى تخشى المجاز وتحولاته السحرية والباذخة، كما تخشاه مجتمعات اليوم، على الرغم من كل وسائل أمنها واحتياط قواها التدميرية: قصة أو خرافة أو أسطورة يمكن إرجاع زمنيتها أو تاريخها المُعتم إلى «برومثيوس» والصقر الذي يأتي في نهاية كل يوم لينهش كبده، والذي سيلتئم ثانية ما أن تشرق الشمس، لا لشيء آخر غير براعة فنه في السخرية والتحايل على آلهة زمانه.
ويتساءل عجة: ما الذي يمنعنا «نحن» من القيام بالفعل ذاته أو الجريمة ذاتها التي أرتكبها بحق الآلهة؟ لا لكي نسخر من آلهتنا الحالية وأديانها الدموية وحسب، وإنما أيضا أخذ مبادرة كسر شوكتها، عبر وبفضل رقص المجازات المرهفة، أي قوى الأشكال البلاستيكة التي لا تقاوم، والتي تحتضن نبضات الإنسان الأولى، ضمن تفاصيل روحها الفاعلة. من ناحية أخرى، يستشفُ المرء ويشعر، عبر سؤالكم، بعمق الفزع وخشية الفناء الكامل، وليس فناء الأشكال الإبداعية وحسب، حيال قوى الأرهاب العالمي «عابر القارات» وتقنياتها ما فوق المتطورة. جلجامش يا جلجامش.. هل مت وماتت معك كل أشكال الفنطازيا في الإبحار والبحث عن مسوخ الكون لمواجهتها؟ هل غدوت وحيدا ومنكسر الخاطر إزاء مرحلة مُفرغة تماما من آثار المخيلة، اللهم إلا من خيط واحد: تدمير الكوكب برمته واجتثاث جذور أرضه مرة واحدة وإلى الأبد، وكذلك جعل أفلاك ونجوم السماء الأخرى تتلاطم في ما بينها، كتلاطم أمواج البحار التي يغرق ويموت على شواطئها يوميا المئات، الآلاف، أو الملايين من الأطفال والنساء والرجال. لا يكفي وصف الزمن والمرحلة التي نعيشها بالمخزية.. فقد كانت الشعوب الأولى، بطبيعتها، شاعرية، أو كان رجالها الأوائل من الشعراء، وسوف يظلون: «يُهنجل الرجل الأخير من فوق الأرض، مُتسائلا: ما هو الشعر، ما هي النجوم، ما هي الغبطة»؟ كما يصفه نيتشة، أي إنسان التقنيات المنفلتة.
الإصرار على الكتابة
من جانبه، يرفض الشاعر اللبناني قيصر عفيف مقولة: إن الشعر إلى أفول وزوال، بل يرى على العكس تماما إن الشعر في ألف خير. مؤكدا على أن صحة الشعر أقوى من أدبيات النثر قصة ورواية ومقالة. يرجع السبب في ذلك لجوهر الشعر نفسه، فللشعر أولوية وجودية على كل الفنون الأخرى التي تستعمل اللغة أداة تعبير. الشعر مغروز في جبلة الكائن البشري، إن لم ينطق به، يختنق. إنه التعبير البكر الأصيل عما يجول في مملكة الداخل من غناء وبكاء، من دهشة ورعشة، من بوح حزين ومن لهفة حنين وغيرها مما في عاطفة الإنسان. يطلع الشعر دون أن يعكر صفوه تدخل أسئلة العقل، فهو نتاج بكر.. وبالمقابل فإن الرواية والقصة والمقالة لا تجاري الشعر، فلكل نوع ترتيب وتحليل، فيها يتداخل الاجتماعي والسياسي والنفسي وكلها تخضع لمنطق العلوم الإنسانية وأصولها وأحكامها. أما الشعر فيكتب من الكيان مباشرة، وكأن العقل في عملية الإبداع يقف حارسا وإذا تدخل فبالحد الأدنى. ويتساءل عفيف في جوابه عن إهمال الشعر من قبل الناشرين: متى كان الناشر يهتم بنوعية الكتاب وجودة المضمون؟ قبل كل أمر آخر هو تاجر غايته الربح ولن ينشر كتاب شعر لأن مردوده المادي معدوم. لكن هناك سؤالا آخر: هل توقف الشعراء عن التعبير؟ يعرف الشاعر أن النشر صعب ويعرف أن الشعر صناعة لا تقيت جائعا ومع هذا يصر على الكتابة.
أقلية هائلة
الأمر نفسه يؤكده الشاعر السوري الكردي حسين حبش، موضحا أن مستقبل الشعر سيكون مزدهرا، كما كان مزدهرا دائما ما دامت هناك «أقلية هائلة» شغوفة ومجنونة به وبمشاغله الفذة على الدوام، وعلى مر العصور، وهم موجودون منذ الأزل في كل مكان بغرابتهم وفرادتهم وندرتهم الهائلة، وكذلك بمخيلتهم الفذة التي لا تعرف الاستكانة والجمود والركون إلى البلادة والكسل، ولا تغرف إلا من المجهول والمستحيل وقلق الأسئلة، وعيونها لا ترنو إلا إلى المستقبل، ولا تهب إلا الفتنة والجمال والألق للحياة. مضيفا أنه كلما نقص عدد قراء الشعر ازداد اشراقا وازدهارا وبهاء، لأن أولئك القراء «الأقلية» هم وحدهم، أولئك الذين توصلوا إلى معرفة عمق وكينونة الوجود وأسئلته الغامضة، وعرفوا أن السبيل إلى المستقبل لا يمر إلا عبر خلاصة الكلمات والشكوك التي تبثها من حولها عبر الأسئلة التي تطرحها بشجاعة وجرأة لا مثيل لها.
ويرى حبش أن إهمال الناشرين للشعر وعزوف الكثرة عنه لا يهم كثيرا. لأن خيطا رفيعا من الجمال في قصيدة ما يستطيع أن يضيء عالما بأكمله. وبالطبع سيبقى الشعر ذلك الطفل المنزوي الذي لا يتكلم إلا نادرا، لكنه يشع دائما وأبدا. وسيبقى أيضا ضيف الحياة المدهش والعجيب والفاتن، وستحافظ عليه الحياة حتى لا تفقد إدهاشها وفتنتها وبريقها وجمالها. الشعر نبتة الحياة الفريدة والغريبة التي لا تنبت إلا في الأرواح المدهشة التي تعرف قيمة الوجود ومستقبل هذا الوجود. يمكن أن يقال في لحظة طيش إن المستقبل لا يتوقف على الشعر، لكن أي مستقبل نظيف سيكون من دونه؟ أما ماذا سيكون عليه الشعر في المستقبل، فيعتقد أنه على الصعيد الشكل سيتطور، وسيغير من جلده كثيرا، وسيعبر كل الأشكال المتعارف عليها إلى هذه اللحظة. سيصل التجريب إلى أقصى درجة ممكنة، وغير ممكنة أيضا. أما على صعيد الموضوعات التي سيتناولها ويتطرق إليها، فإنها ستتشعب وتتوسع بتشعب وتوسع الحياة وتطورها كما كان الأمر دائما وأبدا.
الطاقات المتجددة
فيما يؤكد الشاعر المغربي سامح درويش على أن ما شهدته وتشهده الأجناس الأدبية من تطور وتحول إنما هو دينامية مستمرة تنبثق من تحولات العيش على هذا الكوكب وتواكبه، على اعتبار أن الإبداع الأدبي والفني كان دائما سابقا لعملية التجنيس والتوصيف والفذلكات النقدية، فالشعر هو جوهر الوجود الإنساني، ومن ثمة فالشعر في نقائه يظل هو الشعر مهما تعددت أشكاله وتمظهراته، وبالتالي فهو في تطور داخلي لا يهدأ ولا يفتر، لأنه يحمل فتيل الوجود الإنساني، والشعر- أيضا- كشف ومكاشفة واكتشاف.. كشف مكنونات الذات والوجود، ومكاشفة مع هذه الذات وهذا الوجود، واكتشاف متجدد للأشياء والكائنات والفضاءات، وهو بطبعه ميال إلى التحرر وتحطيم القوالب وارتياد المجهول واكتشاف جغرافيات إبداعية جديدة، لذلك فهو شحنة إنسانية متجددة لا تقبل الثبات والتحنيط، ولذلك أيضا يظل مفتوحا على تطوير أشكاله، وسيظل في الآن نفسه قادرا على صيانة جوهره حتى لو لم ينشر بالصيغ المتعارف عليها اليوم، وحتى لو تسيدت الأجناس السردية في مرحلة ما لاعتبارات محددة وسياقات مؤطرة، إذ إن الشعر كان قبل الملحمة والمقامة والرسالة والقصة والحكاية والرواية وغيرها من الأجناس الإبداعية السردية، واستطاع أن يستمر، في ما انقرضت بعض الأشكال السردية. الشعر جوهر وليس معطى عارضا، أما التجنيس الأدبي فهو مسألة نقدية بحتة، إذ إن الشعر يخترق جميع أشكال الكتابة، بل إن كل إنسان في تكوينه الخام شاعر، يمكنه أن يمارس هذا الدفق الروحي بأشكال وصيغ مختلفة حتى إذا تلبس هذا الدفق باللغة أصبح ذلك الشعر المتعارف عليه بين البشر.
من هنا، يعتقد درويش ألا خوف على الشعر.. فهو من الطاقات الرمزية المتجددة، لذلك سيستمر بمآزقه وتوثباته.. إنه كوكبنا الرمزي الذي لن يتهدده الاحتباس المجازي أبدا، هو هواء المشاعر الذي تستنشقه أرواحنا. ودرويش ممن يؤمنون بقدرة الشعر الدائمة على التجدد ومقاومة أسباب ترهله، وأسباب أي تلوث محتمل بسبب المحافظة والتحنيط الشكلي.. فالشعر هو حالة وجود يمكن أن تستمر بصيغ وأشكال وأدوات مختلفة، لذلك لا يمكن كبح توثبه الدائم وتسييج فضاءاته اللامحدودة.
الحي لا يفنى ولا يموت
ينحو الشاعر السوري فواز قادري في جوابه منحى شعريا، فيقول: يتكرر الصباح ولا تتشابه القصائد، يتكرر الغناء ولا يتشابه رقص الكلمات وهي تخاصر الموسيقى، يتشابه سقوط التفاحة التي يأكلها العدم، ولا يتشابه معنى السقوط.
يتباهى الخوخ بفروته اللماعة كصدى الأجراس ويسقط كطائر طعين على أرض البستان، ويحلق الشعر عكس الجاذبية الساحبة. يتكرر رقص الموج وانكساره وتختلف الشطآن والرمال ويبقى الشعر.. تصعد التلال إلى أعلى الهاويات وتذوب من تحتها الأرض، ويبقى الشعر.. تلتف أذرع الأجناس الأخرى حول عنقه ويتنفس من مسام الحجر. تحاصره التكنولوجية بجيوش لا أرواح لها، تصعد الآلات احتجاجها وتطالب بإعدامه وتحويله إلى معدن لا يحس ولا يستفز، أو إلى أرصدة ذهبية في حسابات الساسة والصيارفة، أو أوشام معدنية على أذرع النساء الخائبات والفاشلات بالحب.. قبل أن يستيقظن ويستعن به من أجل أن يستعدن هيبة وعذوبة الأنوثة، ستتهجم عليه مافيات الأرواح، وسيهلل الموتى الذين يتباهون بالمقابر اللامعة والسيارات السريعة والقيء الرخامي الأملس… بل أن تكتشف المومياء استحالة ما تحاول ويحاول معها المحنطون.
ويضيف قادري: حين نصبح روبوتات ويهجرنا الشعر، ستبتكر الحياة كائنات أخرى، ستطالبنا بإرثها من الشعر، وستحتج علينا بشدة الضوء وغضب الينابيع وعذوبة صباح الخير التي دفنها الحديد في مغاوره العميقة. ستطالبنا بصهيل قبلة العاشق، ولحظة العناق التي تشبه الولادة، وتستعيد نكهة العلاقة الحميمية بين عاشقين، تداخل الأجساد وتناسبها وانسجامها وتنافرها، فرحها الخالق وليس تكاثرها الأعمى فقط، ذوبان أجسادنا حنانا من لمسة يد الأم التي تلاحقنا حتى آخر نفس، دمعة الوداع أو فرح اللقاء الغامر. كل ما له تأثير على الحياة من أجل أن تبقى حياة، ومن أجل أن يستعيد الشعر جيناته التي توارت ولم تعد في ذاكرة الموجدات.
الشعر وحده القادر المتمكن، تنتشر تعاليمه دون أن يطالب بذلك، يقل مريدوه ربما، ولكن يبقى غبار الطلع يحمل رسائله ويدور من زهرة إلى زهرة، من عشبة إلى عشبة من دم إلى دم، من روح إلى روح، حتى إن تغيرت سحنته وتأنسنت طباعه كثيرا، سيبقى البدائي الذي لا يدجن ولا يأنس للأوامر والقيود، الحي الأزلي لا يموت لا يفنى ولا ينتهي.
(القدس العربي)