هوامش القراءة العربيّة وقصيدة الهايكو

باسم احمد القاسم

هل كلُّ وافد فني إبداعي إلى ذهنيتنا الإبداعية العربية بحاجة إلى دليل على أهلية ممارستنا الإبداعية له نحضره من خزائن أو متاحف محدّدات شكلانيّة راسخة لدى الناص والمتلقي العربي على حد سواء؟ ولو دققنا أكثر سنقصد الذهنية الكتابية الإبداعيّة العربية تلك المنتجة للشعر، كون القصة والرواية والسينما والفن التشكيلي لا تشكل العمق التأريخي التأصيلي ذاته لدى العرب المبدعين.
حسناً.. ولكن ما الذي يدعو إلى طرح هذه الموضوع الجدليّ وقد تم ذلك سابقاً في كل مناسبة يتم فيها وفود نمطية شعرية إلى دائرة الكتابة الشعريّة العربية، وربما سنقبل بتاريخ ابتدأ مع جماعة أبولو الشعرية، مرورا بدستور نازك الملائكة وإسهامات السيّاب والبياتي وصولاً إلى قصيدة النثر، التي أخذت مسارها الآن على أيدي مجموعة روّاد لهم فيها نماذجهم القارّة من أمثال سعدي يوسف وأنسي الحاج وأدونيس. ولكن مع قصيدة الهايكو هذا الموضوع بمعالجته ومكوّناته نجده سيختلف جذرياً عندما يتناول وفود قصيدة الهايكو اليابانيّة إلينا كعرب في نمطيّة شعريّة وفن شعريّ بات الآن يمسك زمام مبادرة شعريّة عالميّة، إن صح التعبير، تتسع دائرة ممارستها وتنظيرها لقصيدة الهايكو من ناحية تفرّدها نشأةً وتكويناً عن الميتافيزيقيا الغربية والعربية عموماً في تداولاتها الشكلانيّة أو التحليليّة، وحتى أحدث ما يتم تداوله نقديّاً في دوائر هذه الميتافيزيقيا مع النص الشعري الحديث، ولكن في النهاية هناك ثمّة ما يمكن أن نعتبره عناوين شكلانيّة لموضوعات كلّية بين شعرية نص الهايكو وباقي أنماط الشعريّة في الع،الم ولكن حين نصل إلى التفاصيل والإجابة عن (كيف ولماذا) سنجدُ أنّ شعر الهايكو يُبقي لنا الأسئلة الكلّية المطروحة، حتى أنّه لا يهتم بالمقاربة معها في هذه الدوائر، ولكنه يستبدل جميع الإجابات عنها، بإجابته الخاصّة والناقضة في أحيان كثيرة لمعايير الشعريّة وفق الميتافيزيقيا الغربية والعربية عموما،ً والمجددة أيضاً فيها بشكل ملموس ضمن القليل من الأطروحات حول هذه الشعريّة والسابقة لها تأريخياً في بعض التقنيات الشعريّة.
وسنجد العقل الناقد هنا أمام مفترق طريق مهم على ما أعتقد في صيرورة ما يمكن أن نسميه التداول العالمي لشعرية النص الشعري، إن صح التعبير، وقد ابتدأت هذه الوقفة وهذا المفترق بتبلوره مع احتكاك غربي مع الهايكو الياباني يمكن أن نعتبره احتكاكاً ابداعياً وتنظيرياً جادّاً – لسنا هنا بصدد ذكر أوليّات من كتب الهايكو، كما يحدث في الأنطولوجيات – يبرز هنا الشاعر السويدي الحائز جائزة نوبل 2011 توماس ترانسترومر من خلال تداوله كتابة الهايكو المترافقة بوجهة نظره وآرائه التنظيرية حول هذا الفن، ومن الجانب الأمريكي عزرا باوند، وليام كارلوس، إيمي لويل، والس ستيفنز. وجاك كيرواك، الذي هو بحسب شهادة الشاعر صديقه ألن غينسبرغ يعتبر الأشهر بين جماعة الـ«بيت»، رائدة حركة «التصويريّة» التي قامت بنشأتها من التأثر بالهايكو الياباني.
وبالتأكيد ثمّة رواد آخرين متعددي الألسن، ومن أهمهم الكاتب والشاعر الإيراني مسيح طالبيان، ولكن نترك ذكرهم لمناسبة أخرى تتناول هذا السرد التاريخي
بغيتنا الوصول في هذه الفسحة إلى الساحة العربية، منتبهين ويقظين إلى قضيّة مهمّة وهي أن تلقّي الساحة الابداعية العربية لفن الهايكو لا نعتبره تلقيّاً متأخراً، أو أن ثمّة فجوة زمنية بعيدة تفصله عن التلقي الغربي للهايكو، خصوصا بعد أن نلاحظ أن جميع من ذكرناهم من الدائرة الغربية الإبداعية بدأوا مع الهايكو كتابة وتنظيراً مهمّين وملاحظين كمنجزات في منتصف القرن العشرين، وهذه لا تشكل أيّ مسافة زمنية كفجوة بعيدة اعتدنا الحديث عنها مع أنماط عديدة كانت فيها التبعية للدائرة الفكرة الغربية واضحة زمنيّاً وتنظيرياً وإبداعاً في إطار مثاقفة معتادة ومؤطّرة، ولكن ربّما ما يمكن أن نسميّه تأخّراً يكون في ما يخص عمق وتعدد أبعاد الخطاب النقدي التنظيري العربي في الهايكو وعنه، إلّا أننا وبدقة وتمحيص نجد تزايد النشاط النقلي الترجمي المهم والواضح، الذي نأخذه على بعدين، الأوّل مباشر من اللغة اليابانية الأم، والثاني من اللغات الأوروبية المترجمة عن اللغة اليابانية، وتكون لدينا هنا ترجمة عن ترجمة، هذا النشاط كان للمبدعين العرب ومفكريهم نصيب مهم في تلقي الهايكو برز وتجلى مع أسماء عربية أخذت سمة الكاريزما الناقلة والمعرّفة والمفسّرة ربما للهايكو الياباني، ومن أهم هذه الأسماء السوري محمد عضيمة والفلسطيني محمد الأسعد، وأذكّر أننا لسنا هنا بصدد الحديث عن الأوّليات، كما في الانطولوجية، فينبغي ألا نغفل عن نشاط وإسهامات مجموعة من الشعراء والكتاب من أمثال العراقيين جمال مصطفى وسعد جاسم وأسعد الجبوري وبشرى البستاني، والسوريين خليل صويلح وعدنان بغجاتي، وجمال محمود هنداوي ولينا شدود والمغربي سعيد بوكرامي.. ولكن من ناحية النشاط القرائي والتنظيري التجسيري بين الهايكو ومثقفي العرب، فقد تم على يد عضيمة والأسعد من ناحية الإحاطة الأوسع والتبحر العميق ترجمةً وبحثاً، بحيث شكّلت أوّل مرجعيّة عربية للمعنين بهذا الفن الشعري، ولعل أبرزهم محمد عضيمة لخصوصية تأهيله المعرفي وسيرته الفكريّة والأدبية، التي قسم مهم منها أنجز وهو يعيش في اليابان، أستاذاً لغوياً مدرّساً وكذلك منخرطاً في خضّم المجتمع الياباني عائلياً ومهنيّاً. وثّمة ما يميز عضيمة عن باقي أقرانه العرب وهو النقل والترجمة المباشرة من اللغة اليابانية الأم، فكانت سلسلة من المنجزات الكتابية ترجمة وبحثاً، التي صدّرها للساحة العربية في ما يخص الثقافة اليابانية عموماً والهايكو خصوصاً «غابة المرايا اليابانية /كتاب الهايكو مع «كوتا كاريا» / «تاكو بوكو» الأعمال الكاملة / «كوجيكي» الكتاب الياباني المقدّس / محاضرات في التقاليد الشعرية اليابانية «أوكا- ماكوتو»/ حوارات في أنطولوجيا الشعر الياباني الحديث/ ديوان الشعر العربي الجديد».
ورفد الشاعر والكاتب محمد الأسعد هذه الساحة أيضاً بعمل ترجمة مهم لكينيث ياسودا الذي تناول جماليات الهايكو الياباني في كتابه «واحدة بعد أخرى تتفتح أزهار البرقوق» بالإضافة لآراء نقدية وتنظيرية في الهايكو وعن الهايكو في مقالات ودراسات عديدة ولعلّ أهمّها: «ماتسو باشو وشرّاحه في الوضوح النادر والبساطة الجميلة». وهناك مجموعة من القصائد التي حضرت في أعماله الشعريّة على أنها هايكو. ويُسجّل للكاتب والمترجم المغربي سعيد بوكرّامي إنجاز عمل له ثقله في انطولوجيا الهايكو الياباني وهو ترجمته لكتاب «تاريخ الهايكو» للشاعر الياباني ريو توسويا بمقدمة للمترجم ميسّرة ومختزلة.
مع ما سلف ذكره عربياً وللمطّلع الدارس سنجد أن هؤلاء العرب من المتصدرين لفن الهايكو الشعري نستطيع أن نتحدث عن سمة توشك أن تكون غالبة في قصديّة وتوجه هؤلاء وهو التركيز على السياق التاريخي الذي ولد فيه الهايكو الياباني والخصائص الجامعة لسياقات فلسفية وفكريّة مرجعيّة، وربّما شكلانيّة أوّلية لعناوين عامّة إن صح التعبير، توفّرت في شعريّة قصائد الهايكو الياباني لآباء هذا الفن من اليابانيين «ماتسو باشو/ إيسا / بوسون/ ماسو أوكا شيكي وآخرين إنّهم المهمومون حقاً بالخشية من سوء فهم وتلقي الساحة العربية للهايكو أو برفضه حتى وهو ما سيفصلهم عن اهتمام ثقافي ابداعي أصبح عالميا وقاراً.
إنّ السمة الغالبة على إنجازاتهم تجيب بمباشرة ووضوح عما ابتدأناه من تساؤل في بداية هذا المقال، فهذه الإجابة مصيريّة وجوديّة بالنسبة لإمكانية ممارسة فن الهايكو الشعري عربيّاً، إنّها إجابة راسخة في أنّ هذا الفن جزافاً ستكون محاولات تدجينه واحتوائه من خلال إلحاقه بأدلّة وتنظيرات نحضرها مما ألفناه أو أنتجناه، أو تراكم لدينا تاريخياً من ثوابت وتنظيرات ومحدّدات شكلانيّة راسخة لدى الناص والمتلقي العربي، على حد سواء، فمن مقدّمة كتاب الهايكو الياباني يقول محمد عضيمة «إن قصيدة الهايكو الياباني لا تستعير ولا تجيز، أي ليست استعارة ومجازاً، فهي نقل أمين وذكي لواقع خارجي ملموس» فكيف سيتم احتواؤه وتطويعه على أنّه شعر في لغات غير اليابانية، تقوم شعريتها على أساس الصورة والمجاز مثل اللغة العربيّة والفرنسيّة مثلاً. كما أن قصر نص الهايكو ومعناه الجلي لا يتيحان الكثير من المناورة اللغوية إلا ربما بما يخص الحذف، وهو من خصائص لغة الهايكو، هنا محمد عضيمة في مجمل مقالاته وحواراته مع الهايكيين اليابانيين يحاول الإشارة إلى اتجاه واضح ووحيد وهو أنّ هذه الذهنيَات الشعرية المستقبلة للهايكو لابد أن تفسح مكاناً لثقافة الهايكو اليابانيّة في منظورها للشعريّة قبل أن تفسح مكاناً للهايكو كنص شعري يحمل صفة «عربي أو عالمي». ونجد الكاتب محمد الأسعد في مقدمته لمجموعة من قصائد الهايكو /تهمس البوكنفيليا مثقلة بأزهارها الحمراء/ يقول:
«قصائد الهايكو لا تعلّق لها بأنماط الشعر العربي التقليدي منه والمحدّث الموزون أو المنثور وهي تحمل رؤية مختلفة إلى العالم غير ملموسة في الثقافة العربيّة وهي تتجنب الأساسيات العزيزة للجمال الشعري المألوف مثل التشبيه والمجاز وتجريد الملموس وتجريد المجرد والتشخيص، فهي تتمسك بتسمية الموضوع موضوع الخبرة مباشرة» وربما نجد أن محمد عضيمة أكثر حيطة من ناحية الحديث عن هايكو يكتب بالعربي أو أن هايكو مترجم سيبقى هايكو بخصائصه اليابانية بعد الترجمة اللهم إلّا ما أطلق عليه القرب من روح جمالية الهايكو وقد يبدو بالمجمل أن بحوثاً عديدة من قبل اسماء عربية عديدة سبق ذكرها بهذا الصدد قد تغلق الباب في وجه محاولات عربية في الهايكو أو أن تدفعها إلى كسر الصيغة الشعريّة للهايكو الياباني وتحويلها إلى أي نمط آخر ليس من الهايكو في شيء، إلّا أنها في الواقع ترشد إلى المسار والمنحى المغاير والجديد، فيما يمكن أن نتخذه بوابة إلى فضاء الهايكو، ندخلها كما دخلت إليها الذهنية الغربية الشعريّة، إن مثل هذا الانزياح عن جادة الهايكو الياباني، حدث عند كثير من الغربيين، ومنهم جاك كيرواك الذي خالف أساسيات قواعد الهايكو الياباني، ووصل إلى مرحلة تغيير اسمه إلى «بوب دارما أو الأمريكان بوب»، ولكن في العقدين الأخيرين عقب ذلك دخولاً قوياً وحضوراً غربياً وعالمياً مهمّاً وينحو أن يصبح قاراً في فضاء الهايكو العالمي، فالمبادرة كانت سريعة ومكثفة في استيعاب ثقافة المجتمع والتراث الياباني الفلسفي الشعري، فتم الانتقال إلى سويات أعلى من ناحية البحث في تثبيت إحداثيات جمالية الهايكو على خريطة الكتابة الابداعيّة العالميّة قدر الإمكان، ومقاربة شكلانية نوعاً ما تم تشكّل ملامحها فنرى عملاق البنيوية الفرنسي رولان بارت في سياق تأملاته عن العلامة والكتابة يخصص ثلاث محاضرات يتحدث فيها عن شعر الهايكو الياباني، ولكن بطريقة محدودة مقننة بدون استفاضة عميقة في بنية الهايكو الياباني في سياقاته الثقافيّة، ولن ننسى أن في الجانب الآخر مع الهايكيين اليابانيين إقبالاً كبيراً باتجاه عالمية الهايكو ولهم محاولات في التجديد والتطوير ولعلّ أبرز تجلّيات هذا النشاط حدث في قيام جمعية الهايكو العالمية ومؤسسها بانيا ناتسوإيشي ومهرجان الهايكو العالمي المنعقد سنوياً في طوكيو.. وعلى ذلك هل يمكن أن نترقب ملامح مثل هذه النقلة عند المثقف العربي ينتقل بها من سياقات الصف العربي الأول، التي كانت ضرورية وأساسية في فن الهايكو الشعري فنقوم بتحقيق نقلة نوعية من السياق، إلى نسقية الشعريّة اليابانية في نص الهايكو، وذلك بالطبع في ما يخص شعريّة جديدة وافدة تكتب عربيّاً وهل يمكن أن يذهب الحديث بعيداً وأعمق بكثير في سمك هوامش القراءة العربية للهايكو/ المجاز والأنسنة، الذاتي والموضوعي، التقطيع المشهدي/ المفردة وخصوصيتها / طقوسية كاتب الهايكو.. إلخ / من ناحية ثقافة شعرية مغايرة ستتوفر في النص العربي ضمن محددات جوهرانية في الهايكو الياباني بشكل أكثر عمقاً وتشبّعاً.
لعلي في تسليط ضوء سأقوم به لاحقا حول صفحات الهايكو العربية الإلكترونية ومجموعاته المتنوعة سنجد همّاً في تحقيق هذه النقلة حيث أن مختبراً كبيراً من نوع ما تدور في أركانه تفاعلات لم يسبق لها مثيل من حيث غزارة المحاولات الكتابيّة والتنظير لها بحيث أنه نجم عنها نشر كتب أطلق عليها شعر (هايكو) يمكن اعتبارها بغثّها وسمينها محاولات لتجاوز مرحلة السياق إلى النسقية، مع تناول الهايكو في هوامش قرائية عربية فرس رهانها ما يزال في مضمار الحيرة. * قصيدة الهايكو: نمط شعري ياباني يوصف على أنه أصغر شكل شعري عالمي كنص قام على يد «ماتسو ـ باشو» الذي يعتبر معجزة الهايكو الياباني في العالم بنصه الشهير هايكو «الضفدع» مع مجموعة من معاصريه يطلق عليهم الآباء وأطلق على هذا النمط اسم «هايكاي» في تلك الحقبة إلّا أن هذا النمط لم يطلق عليه اسم «هايكو» إلّا مع نهاية القرن التاسع عشر على يد «ماسوأوكا ـ تشيكي» /عن محمد عضيمة، مقدّمة كتاب الهايكو الياباني» دار التكوين / سورية

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى