مذكرات جون لو كاريه تشهد على عصرنا
انطوان جوكي
جون لو كاريه واسمه الحقيقي دايفيد كورنويل، ليس مجرّد كاتب روايات تجسُّس تمكّن، بمهاراته السردية وأسلوبه الفريد وغزارة إنتاجه، من فرض نفسه كأحد أبرز وجوه هذا النوع الأدبي. فسواء خلال خدمته في أجهزة الاستخبارات البريطانية أثناء الحرب الباردة، أو خلال مسيرته الكتابية الطويلة التي قادته إلى برلين وبنوم بنه وبيروت وموسكو ومناطق أخرى من العالم، استطاع هذا العملاق دائماً أن يكون في قلب تاريخنا المعاصر.
من هنا أهمية كتابه الجديد، الذي صدرت ترجمته الفرنسية حديثاً عن دار «سوي» الباريسية، بعد أشهر قليلة على صدوره في لندن. كتاب وضعه على شكل مذكّرات ويروي فيه، بأسلوبٍ قارص وطريف، وبذلك الحسّ الأخلاقي الذي يميّز جميع رواياته، الأحداث التي كان شاهداً عليها، كاشفاً في طريقه مساره ككاتب الذي يمتد على مدى ستة عقود، وساعياً إلى الإمساك بتلك الشعلة الإنسانية التي ألهمته عدداً لا يحصى من الشخصيات الروائية.
وتجدر الإشارة أولاً إلى أن لا ثرثرة في هذه المذكّرات، على رغم ضخامة الكتاب، بل رغبة لدى صاحبه في سرد اللقاءات التي غذّت رواياته. وفي هذا السياق، نلتقي معه برؤساء أبرز أجهزة الاستخبارات في العالم، بوزراء ورؤساء حكومة أوروبيين، بزعماء ميليشيات أفريقية وشرق أوسطية، بالجاسوس الشهير كيم فيلبي، وأيضاً بكتّاب وسينمائيين كبار مثل غراهام غرين وجوزيف بردوسكي وريتشارد بورتون وفريتز لانغ وسيدني بولاك. بالتالي، على القارئ عدم انتظار سيرة ذاتية تقليدية، فالبوح والاستبطان أمام الآخرين ليسا من شِيَم لو كاريه، بل سردية رحّالة سعى خلف التجربة والمغامرة، ضمن تقليد الرومنطيقية الألمانية الصافي.
ومن هذا المنطلق، انخرط لو كاريه في نهاية الخمسينات في جهاز المخابرات الداخلية البريطانية (MI5)، قبل ان يغادره بسرعة للالتحاق بجهاز الاستخبارات الخارجية (MI6) فينشط تحت صفة ديبلوماسي في ألمانيا التي كانت لا تزال تتخبّط في ماضيها النازي الحديث. نشاط لم يمنعه من مزاولة الكتابة، بل أوحى له بروايات ثلاث، من بينها رائعته الأدبية «الجاسوس القادم من الصقيع» (1963). ومع ذلك، وضع حداً لهذا النشاط في منتصف الستينات من أجل تكريس وقته لهوايته الجديدة، علماً أن أسفاره ولقاءاته المثيرة كانت لا تزال في بدايتها.
من «نفقُ الحمام» نعرف أن سفره الأول ككاتب كان إلى كمبوديا أثناء حكم الخمير الحمر حيث اختبر الحرب للمرة الأولى واستقى مادّة روايته «التلميذ الشريف» (1977) وتعرّف إلى الفرنسية إيفيت بييرباولي التي كانت تضطلع بمهمة إنقاذ الأطفال من أتون الحروب، وأوحت له بإحدى شخصيات رواية «الحدائقي المثابر» (2001)، قبل أن تلقى مصرعها في حروب البلقان. بعد ذلك، ننتقل معه إلى بيروت التي قصدها لتعاطفه مع القضية الفلسطينية، فشكّلت هذه المدينة إطار روايته «قارعة الطبل الفتية» (1983)، بينما أوحت أخته شارلوت كورنويل له بشخصيتها الرئيسية. وفي هذا السياق، يستحضر سهراته الطويلة في فندق «كومودور» البيروتي الذي كان «وكراً لمعظم مراسلي الحرب والجواسيس وتجّار الأسلحة والمخدرات في المنطقة»، ثم ظروف لقائه بياسر عرفات، فسهرة رأس السنة التي أمضاها في ضيافة هذا الأخير في مقره بجنوب لبنان عام 1982، ورقص خلالها الدبكة معه.
ومن لبنان، يقفز بنا إلى روسيا عام 1987 من أجل سرد لقائه المثير مع عالم الفيزياء الروسي أندراي ساخاروف، وتصوير المناخ الخانق في هذا البلد آنذاك الذي استنتجه من المراقبة الثابتة التي تعرّض لها أثناء إقامته فيه. تجربة لم تمنعه من العودة إلى روسيا التي أوحت له بعدة روايات، من بينها «دار روسيا» (1989) و «المسافر السرّي» (1991). ومع انحسار الحرب الباردة، شغف لو كاريه بمصير عدد من الدول والشعوب التي أضحت ضحية النظام العالمي الجديد، مثل كينيا وهونغ كونغ وخصوصاً شعبَي الشاشان والإنغوش المسلمَين اللذين رصد لوضعهما رواية «مطلوب حياً أو ميتاً» (2008)، من دون أن ننسى باناما التي استقى من زيارته لها رواية «خيّاط باناما (1996)، أو العراق التي عارض حرب أميركا عليها وكتب عن مأساتها رواية «صداقة مطلقة» (2003). أما الكونغو الذي منحه مسرح رواية «نشيد المهمة» (2006) فشكّل «حقل الموت» الأخير على لائحة أسفاره.
وعلى طول نصّه، يستحضر الكاتب بسخرية لقاءاته بعظماء العالم، كالرئيس الإيطالي فرانشيسكو كوسيغا الذي دعاه إلى روما لتكريمه، ثم حاول استجوابه حول قدرات أجهزة الاستخبارات الإيطالية كخبير في هذا الميدان، ومارغريت ثاتشر التي رفضوسام الشرف منها، لكنه قبل حفلة الغداء التي نظّمتها على شرفه في القصر الحكومي وسعى عبثاً خلالها إلى تغيير موقفها السلبي من القضية الفلسطينية. وباستحضاره هذه الذكريات، لا يقصد لو كاريه التبجّح أبداً، بل فقط الإشارة إلى الصورة الخاطئة التي شكّلتها هذه الوجوه السلطوية عنه.
وخلف الفصول الأربعين التي يتضمّنها كتابه الضخم، ويروي فيها عدداً لا يحصى من التجارب التي عاشها، نستشفّ تأمّلاً عميقاً في مهنة الكتابة، والكتابة الروائية تحديداً. فهل أن «نفقُ الحمام» مجرّد كتاب مذكّرات؟ لا شك في أن لو كاريه يستعيد فيه لحظات من حياته وقصص حقيقية اختبرها شخصياً. لكن هذه القصص – وهنا تكمن قيمة هذا العمل – تبدو مجرّد مواد تستعين بها مخيّلة الكاتب من أجل سرد ما هي، وهي وحدها، قادرة على رؤيته وفهمه. فالأحداث والحقائق، كما نقرأ في الكتاب، ليست سوى «مادة خام أو أداة تتطلّب روائياً مبدعاً لجعلها تغنّي».
وهذا ما يقودنا إلى فن لو كاريه الذي يكمن خصوصاً في قدرته على المحاكاة (mimétisme). ففي أيٍّ من كتبه، لا يشعر القارئ أبداً بأنه أمام إسقاط بسيط لأنا الكاتب، بل يبدو هذا الأخير كمجرّد افتراضية متحوّلة إلى ما لا نهاية، تختار طوعاً أن تتجرّد من مميزاتها للتجسّد في شخصيات مختلفة وجعلها بذلك أكثر مصداقية. إنه فن المحاكاة والتكيّف والتخلّق مدفوعاً إلى أقصى حدوده. فنٌّ اكتسبه الكاتب، كما يسرّ لنا في كتابه، من ظروف طفولته الصعبة.
ففي الفصل الوحيد الذي يحمل طابع السيرة الذاتية، يتبيّن لنا أن والد دايفيد كورنويل كان جنتلمان نصّاباً مستعداً للاحتيال على كل مَن يصغي إليه، وقد دخل السجن مراراً بسبب ذلك. أما والدته، فغادرت المنزل من دون رجعة أو تفسير حين كان ابنها لا يزال في سن الخامسة. ظروف لا نفاجأ على ضوئها من أن تصبح اللغة المحيط الوحيد الذي اضطر الطفل لو كاريه داخله إلى ابتكار هوية له، بعدما حرمه محيطه العائلي منها.
(الحياة)