النوروز أقدم عيد في أساطير الشعوب

أحمد الشمام

تحمل الأساطير أثرا حيويا عميق الأثر تظهر تجلياته في كثير من يوميات شعوبنا المعاصرة، وبعدا دينيا كذلك؛ إذ اشتملت على بنية مقدسة كرست بعدا وظيفيا زاخرا بالدلالة، وكانت الوعاء الذي تضمن تصورات تلك الشعوب للخلق والتكوين، نهاية العالم والطوفان، الحياة وصراعاتها، الحكم، القوة، والخير والشر. لخصت قصة عجز الإنسان أمام قوى لم يدجنها فألبسها لبوس الألوهة والقداسة تبريرا لضعفه، وأسعفت أسئلته لاجتراح قدرة على تفسير ما يحيط به.
وهناك تقاطع للأساطير في بناها المعرفية وتكويناتها، الأبطال والآلهة، الموت والبعث، الزراعة والخصب، التضحية والتكفير، وبدراسة مقارنة للسمات المشتركة في أغلب الأساطير نجد أنها تركزت حول إله للخير ينتصر على قوى الشر، ثم يقتل أو يضحي بنفسه ثم يبعث من جديد، دوموزي في سومر، تموز في بابل، أدونيس في الشام، أوزوريس في مصر، آتيس في روما، وديونيسيوس عند الإغريق، وقد يظهر بطلان لهما السمات نفسها ويحملان القيم نفسها في أسطورة واحدة، جلجامش، أنكيدو.
وتعتبر الأساطير الرافدية هي الأقدم والأكثر تأثيرا في أساطير الفراعنة والفرس والرومان والإغريق، وفقا لرأي أغلب الباحثين، رغم وجود مدرسة تقول بتعدد الأصول polygenesis لاستنادها إلى مفهوم الوحدة النفسية للإنسان psychic unity of man غير أنها لا تصمد أمام توافق التواريخ وتشابه الأحداث، ونسرد ذلك لتفسير التواريخ المتقاربة، حيث أن الأول من نيسان/أبريل لا يختلف عن 21 آذار/مارس سوى بالانزياح الحاصل من قبل الشعوب التي تناقلت الأساطير القديمة فيما بينها، ناهيك عن اختلاف التقويم بين أي حضارة وجوارها فرأس السنة الآشورية لا يطابق التقويم الفارسي ولا الكنعاني أو السومري، إذ كلها تتقارب في أيام محددة، كما أن كثيرا من طقوس النداء لدوموزي وأناشيد الحبيبة الأم له، ظهرت في ما بعد في التراتيل المسيحية للسيد المسيح عليه السلام، وصلوات الطقس البيزنطي (فراس السواح: لغز عشتار)
والأنشودة البابلية التي تنادي تموز الذاهب لعالم الظلمات، تحكي قصة القمح القتيل كإله في عالم الزراعة ليحيا من جديد؛ تكاد تكون نفسها في نداء دوموزي الذي اختطفته عفاريت العالم السفلي، ولا تختلف جوهريا عن النصوص الطقسية للمسيح المضحي، حيث تظهر التضحية البشرية تمثلا لموت الإله ويذكر ibid كيف أن النساء في موكب تشييع أدونيس أيام البطالمة يزرعن بذور القمح في كؤوس حتى تنبت ليشاركن بها في الطقس الجنائزي، لا يختلف ذلك عما يتم فعله في أعياد الفصح التي تقام في عيد قيامة المسيح، ونجد هذا الطقس في شكله الأول لدى الفرس، حيث في إيران يتم زرع البذور قبل أسبوع من عيد النوروز حتى تنتش ثم يطاف بها في الاحتفال باليوم المحدد كرأس للسنة الجديدة.
الظهور الأول والتجليات: تموز المقابل لأدونيس عند الفينيق والإغريق، والفينيق السوري احتراقه وعودته، يوم بعثه، كلها معان لرمز واحد الخصب والعطاء والربيع وتجدد الحياة، هذا العيد البابلي السومري الممتد في حضارة الآشوريين بعد سيطرتهم، ظهر يوم الاعتدال الربيعي في 21 مارس في الألف الثالثة قبل الميلاد في الأساطير البابلية احتفالا بالربيع كعيد لبعث أنكيدو، حيث موسم فيضان النهر الذي يبشر بالخصب والزراعة ورمز انطلاقة دورة الحياة الجديدة، الثمار الجديدة، الأبناء، حَبَل الأرض، وخصوبة النساء والنبات؛ لأن الشعوب مثلت الحياة وبعثها على شكل دورة النبات السنوية بين موت وبعث، توارثت مراسيم الاحتفال بالقفز فوق النار للتطهر من الأمراض واستنبات القمح قبل العيد بأسبوع ـ مما يماثل ما يقام به في الجمعة الحزينة، وأحد الفصح، وتراتيل قيامة المسيح ـ ثم موكب التشييع، حيث كانت المدن في العراق تحمل تماثيل آلهتها وتذهب في هذا التاريخ نحو أوروك… لتقام طقوس احتفالية لأيام متتالية تنتهي بتلاوة الملك لإنجاراته السنوية أمام تمثال أنكيدو القتيل، الذي يتفق في نهايته مع تموز القتيل والمسيح المضحي ومواكب الندب للحسين القتيل؛ فالندب والتطبير لدى الشيعة يأخذ شكلا من أشكال التعذيب، حزنا على مقتل الحسين (رض) ويمكن اعتبار جزء منها تمثلا لتقاليد عراقية رافدينية قديمة تتمثل في طقوس الموسم السنوي لمقتل تموز «دوموزي» .
بقيت هذه الطقوس نفسها بشكلها وتواريخها ورمزيتها تقام في الحضارة الآشورية، السومرية، والأكادية ضمن أساطير الرافدين في الشام والعراق، سرعان ما ظهرت انبثاقات معرفية، أو أساطير موازية تدين لأسطورة بابل كونها الأقدم حتى الآن، الأسطورة ذاتها موجودة في مصر أوزوريس أبيس، ويسمى عيد شم النسيم يحتفل به الأقباط بخاصية أكثر.
لقد ظهرت أساطير مستقلة تؤدي بناها الوظيفية نفسها في ثقافة وتصور شعوب حضارة فارس، ومناطق انتشارها حيث توارثت العيد ثم انطلق كل شعب بتكوين حكايته الشعبية التي لا ترتقي ميثيولوجياً لمستوى الأسطورة، وإنما تسجل في الأدب الشفاهي والملاحم الشعبية التي حملت تفسيرات أو تصورات كل شعب وحملت كثيرا من المعاني المفقودة أو المطمَح بها لإثبات خصوصية كل شعب.
في «الشاهنامة» يظهر النوروز كرأس للسنة الفارسية تقام الاحتفالات وتوقد النيران، وتستنبت البذور وتحضر الأطباق السبعة للأطعمة، التي تبدأ بحرف السين، ومنه أخذ اسمه الحالي نوروز الذي تحتفل به الشعوب ذات الأصل الفارسي عرقا أو لغة، أو تلك التي نهلت في أساطيرها من الثقافة والميثيولوجيا الفارسية أفغانستان، طاجيكستان، أذربيجان، تركيا، قرغيزستان تركمانستان، كازاخستان، وسائر شعوب آسيا الوسطى، والأكراد، بل أن ألبانيا ومقدونيا تحتفلان به أيضا. غير أن هناك خصوصية له إذ يعتبر عيدا قوميا لكل الشعوب المنبثقة من الفارسية أو المتأثرة بحضارتها، حيث يحمل رؤى إثبات خصوصية كل منها وسرد حكائي لملحمة شعبية خاصة لتكريس وإثبات انعتاقها عن الأصل واستقلالها، واسمه لدى كل هذه الشعوب المنبثقة عن الثقافة الفارسية نوروز.
تظهر النار بمعنى آخر لدى الأكراد، حيث تمثل النار علامة الخلاص من الضحاك الظالم وبدء الحياة الجديدة، كما أنه موجود لدى الإيزيدية في العراق والعلوية والبكتاشية في تركيا، لدى الهنود مهرجان هولي في التاريخ نفسه مع إشعال النيران، كما يوجد مثيل له في الصين وزنجبار.
وفي كتب الرحالة العرب يظهر أنه في الدولة العباسية تم الاعتراف به عيدا شعبيا لكل أبناء العراق واحتفل به، بينما بقيت أنظمتنا تحمل موقفا نديا له وللمحتفلين به، وأجدى بها أن تحترمه كجزء من ثقافة شعبية وتاريخية لها مكانتها في الموروث الاجتماعي لأي من مكونات شعوبها.
٭ شاعر وباحث في الميثيولوجيا من سوريا

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى