مسار الثقافة المعاصرة… تقدم أم نكوص؟
رامي أبو شهاب
يذهب بعض الدراسين من علماء الاجتماع إلى نقد المنظومة الثقافية، وتحولاتها في مجتمعات الحداثة وما بعدها، فبين بيير بورديو وزيجمونت باومان ثمة متسع من التحول المستمر لمجتمع كوني تقدم تقدماً غير مسبوق، وبالتحديد من ناحية التقاطع والاشتباك بين الإنسان والآلة، ومن ثم فرض الواقع الرقمــــي، مع نماذج من التسارع المعـــــرفي الذي يتسم بنسق من التبدل والتحول غير المنقطع، بحيث لا تكاد تثبت قواعد لتفكير نتيجة الانهيارات المستمرة للإنجازات، ما يستدعي محو الماضي القريب نحو حاضر لا يلبث أن يتحول إلى مخلفات، حين لا يستجيب لتطور حتمي آخر مقبل.
من جزئية التحول الحتمي أستدعي في هذا السياق نماذج من التفكير التأملي في التقدم الخطي للثقافة البشرية، التي تجعل من العالم، بما فيه الكــــون والبيئة والإنسان وقوداً للرغبة في الوصـــــول إلى أبعد نقطة ممكنة من حيث تجاوز الضعف البشري، واختراق معاني المحدودية التي شغلت الإنسان منذ أن أدرك وعيه الساذج بأنه قادر على تكريس وجـــود أبدي، ولكن الأهم أن يستفيد من حدود إمكانياته العقلية، وبما يمكن أن تجود عليه البيئة من منافع لم يمل من استهلاكها.
لا شك في أن المعرفة تمثيل للبحث عن ماء الخلود… استمرار رمزي أو نسق جلجامشي، كما هو مجسد أيضاً بأنماط من التكريس لرفض الفناء في الحضارة الفرعونية، وغيرها من الثقافات البشرية التي كانت تتألم لفكرة قوامها أن الإنسان إلى زوال، ومع إنسان العصر الحديث، بمعنى آخر الإنسان الذي أصبح الأكثر تطورا وتقدما تاريخياً، بالتزامن مع طفرة تقنية شديدة الإدهاش، غير أن الإنسان مع ذلك لم يتقدم حضارياً، فهو ما زال الأشد فتكاً في تكريس فناء الإنسان للإنسان، وبين هذا المد والجزر تنبثق تساؤلات الكتابة والثقافة، من حيث قدرتهما على تجاوز محدودية التكرار، أو العقم للتعبير عن إشكاليات البشر الذين لم يعودوا يعرفون ذواتهم كونهم باتوا سريعي العطب والتحول.
في زمن لا يكاد الإنسان فيه يطمئن إلى وجوده، وهو يعبر مطارا ما، أو لعله يوجد مصادفة حسب تعبير محمود درويش في مواقع النزاع المستمر والأزلي، أو أن يكون منتمياً إلى شعوب لم تعرف يوما معنى الحرية بتمثيلها البدائي، حينها تبرز الكتابة في لهاثها المستمر والساذج للتعبير عن إيقاع زمن شديد الغرابة، إن لم يكن شديد السريالية، على الرغم من أننا محاطون بعوامل التنظيم والتطوير الذاتي، كما الإنتاج المستمر في كافة القطاعات، غير أننا لم نتمكن من رصد وجودنا في قصيدة أو رواية أو لوحة تعبر عن أزمتنا في تعريف إنسانيتنا، فضلاً عن التمهل لرسم خصوصيتها في زمن لم يعد يقدر سوى فصل الألوان، وهكذا انغلقت الكتابة على ذاتها لتتحول إلى نموذج تابع للتكيف مع السيولة المحيطة، فبات الأديب يقضي جل وقته على مواقع التواصل الاجتماعي، أو كما ينعتهم بورديو الفاعلين أو الراغبين بالسيطرة عبر محاولة رصد تموضعهم في وعي الجمهور الذي بات يتحكم في المضامين والأشكال، فالكتابة أمست تحتكم لمؤشرات لا تنهض على عمق الاكتناه بمقدار ما تخضع لتوقعات قراء عابرين ومثقفين ومتعطلين، وفارغين وهائمين بلا هدف، فانغلقت المشاعر ومعاني الصدق والحقائق الصادمة، والأهم من ذلك حلت الاستجابة لظاهرة الانتشار، ما يعني أن الكتابة لم تعد شديدة التكثيف والعمق، كونها موجهة في خلفيتها، وفلسفتها لتستجيب لمبدأ الانتشار، وبهذا فقد فقدت معاني التكثيف والتقدم الخطي، فالخط المستقيم والمتماسك تحول إلى نقاط منتشرة في فضاء أبيض شديد الاتساع، كناية عن عالم الثقافة المنفتح على كل شيء، ولكنه شديد الضيق، بل يكاد يكون مغلقاً من ناحية فهم المحاذي، والآخر الذي بتنا نتقاطع معه افتراضيا، ولكننا نرفضه وجودياً، ولعلها ربما من أشد مفارقات النتاج التقني في عالم دعا إلى هدم الحدود والانغماس في مجتمع كوني منفتح، غير أن هذه التوجهات مع الربع الأول من القرن الواحد العشرين (غير المكتمل) بدأت تقترب من بناء أسوار من حجارة وإسمنت، على الرغـــــم من أن العالم الافتراضي قد هدم الحدود، بينما رؤوس الأموال تتدفق في تجارة البعض منها شرعي، والبعض الآخر مشبوه بتجارة الموت.
وإذا كان الاستعمار قد انقضى بتكونيه الكلاسيكي فإن الأحداث الراهنة تكشف عن أنه قد تجدد، حيث باتت الإمبراطوريات الكبرى تعبر المتوسط والبحر الأحمر، وكأنها تمارس دورا طبيعياً في عالم لا ينتمي إلا للمدى الخاص بها، بين هذا وذاك، ليس ثمة شك في أن الثقافة لم تعد تتقدم ضمن نموذج خطي، إنما هي في مجال التلاشي، ولا نعني فناء الثقافة، ولكن نعني تلاشي حضورها في الوعي بوصفها قيمة، فهي أقرب إلى نموذج تكويني بنيوي وهمي، كما ناقش بيير بورديو في زمن ما التكوين العميق للمؤسسة الثقافية في فرنسا، ناقدا المعرفة القائمة على أسس وابتناءات تعنى بالعلائق، لا بالحقائق التي ليست سوى نتاج مكثف، لكن الكثافة باتت ضربا من المستحيل والهذيان، أو كما تحدث نيتشه عن ثقافة تنشغل بالمعنى العمودي لا الأفقي، أي فكرة تثبيت الحدود والتشابه، ورفض الحدود والحواجز، لقد استبدلت المجتمعات بكل ما تنطوي عليه من نماذج معرفية وثقافية تكويناتها العميقة والشديدة التجذر بأنماط من التغير المستمر نحو الانغلاق لا الانفتاح، ولهذا فإن النتاج الثقافي بات تمثيلاً لشبكة من المفاهيم والممارسات والمعارف، بما في ذلك النزعات القيمية والاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية ضمن تشكيل لا يحيل إلى معنى بحد ذاته، أي أنه لا يحتفل بقولنا، ولا يحيل إليه، فالعالم لم يعد يرغب بما يمكن أن يقيم، أو يستمر، أي نفي البقاء، ولهذا يجب أن يتحول كل شيء إلى زوال، بما في ذلك صورنا، وانطباعاتنا ومعارفنا، فنحن لا نكاد نمتلك شيئا ما حتى نبحث عما يلغيه، وهكذا، كما هي أفعال النشر الرقمي التي سرعان ما نتناسها بعد أن تأخذ مسارها إلى أسفل الصفحة على مواقع التواصل الاجتماعي، وهذا ينسحب على المكون والنتاج الثقافي الذي لم يعد يستسغ صلاحيات طويلة الأمد، ولهذا بتنا أقرب إلى ثقافات المعلبات، أو الوجبات السريعة، فنحن في وضع غير مستقر، كما أننا شديدو التغير، في حين أن الموت بات يقيناً ثقافة تنتجها بعض الشعوب ولا يمكن لها أن تستمر دون أن تبقي عليه بوصفه جزءاً من شخصيتها، في حين أن الحرية ليست إلا مجالاً من العقاب حيث بتنا نخاف منها، لأنها ربما تحلمنا إلى ما لا نرغب، إنه عقاب شديد الكآبة أن تولد في جحيم الوجود، حيث تفقد إرادة الحياة، في زمن كاد يقترب من مئة عام لم تتقدم الثقافة العربية، إنما هي تراجع مستمر، فهي باتت أقرب إلى نقاط تائهة تبتعد شيئا فشيئاً عن مركز ما، إذ يتحول وجودنا، أو ثقافتنا إلى فراغات، ونحن نقيم بينها.
(القدس العربي)