«مانشستر على البحر» لكينيث لونرغان: ذلك الحزن الذي يسحق القلب
نسرين علام
«لا يوجد شيء في الداخل» هكذا يقول لي تشاندلر، الشخصية المحورية في فيلم «مانشستر على البحر» (2016) للمخرج الأمريكي كينيث لونرغان، مشيرا إلى قلبه، عندما يلتقي زوجته السابقة بعد أعوام من الفجيعة التي هدت كيانه. إنه فيلم عن الألم والفقد والذنب، عن ذلك الحزن الذي من هوله لا نقوى على ذكره أو الحديث عنه. صمت (لي) وعدم مقدرته على الحديث ليس دليلا على الخواء أو فقدان الحس. سكوته هو الألم ذاته مضاعفا أضعافا كثيرة. ما يشعر به لي هو ذلك الشعور بالخدر من شدة الألم، ذلك الشعور أن الألم احتواه تماما وملأ كيانه تماما فصار لا يستطيع أن يراه أو يعبر عنه، فقد غدا ألما مجسدا في صورة بشر.
لي، الذي يلعب دوره بحساسية وإنسانية فائقة كايسي أفليك، يعيش مثقلا بمأساة هدت كيانه وأبعدته عن بلدته الصغيرة الواقعة في ولاية ماساتشوتستس الأمريكية، تلك البلدة التي تعطي اسمها للفيلم. في مستهل الفيلم نراه في عمله مشرفا على صيانة عدد من العقارات في مدينة بوسطن. نراه يصلح حماما مسدودا، أو يرفع القمامة أو يزيل الثلوج المتراكمة. يمارس مهامه بتقطيبة على جبينه وكلمات قليلة حادة، نراه يسير منحنيا في مشيته منكمشا على ذاته، كمن يريد أن ينطوي على ألمه ليسكنه، أو كمن يريد أن ينغلق على ذاته فيبعد عنها العالم الخارجي بتطفله على ما يحمل من ألم. نظراته خاوية لا ترى المحيط الخارجي. نراه في تلك الحانة لا يلتفت على الإطلاق لمحاولات تلك الحسناء التي تقف جواره لاستمالته، فهو منذ الوهلة الأولى يبدو لنا رجلا بلا قلب، لا تستخفه المشاعر أو الحسناوات. نراه يختلق الأسباب اختلاقا للشجار مع رجلين يكيل لهما اللكمات، للتنفيس عن غضب مكبوت.
يبدو لنا لي للوهلة الأولى شخصا نزقا غاضبا لا نتعاطف معه ونبادله النفور بالنفور، وربما هذه هو ما يريده لي من العالم. غضبه هو قناعه الذي يرتديه ليحمي به رهافة ذاته. وغضبه من العالم هو غضبه أيضا من ذاته التي يعيش معها كل يوم مع أنها السبب في الفجيعة التي دمرت حياته وحياة آخرين يعزون عليه. لي هو صرخة صامتة تنظر أن يعلو هديرها. إنه بركان من الغضب تحت سطح يحاول أن يكبح جماحه.
لكن لي لم يكن دوما ذلك الغاضب الصموت. شخصية لي الحالية تتعارض تماما مع ما يتكشف لنا في عدد من لقطات العودة إلى الماضي (الفلاش باك) التي ينسجها لونرغان باقتدار في نسيج الفيلم. في هذه اللقطات نرى أن لي كان زوجا محبا وإن كان طائشا، نراه أخا وعما عطوفا ذا حس فكاهة، نراه ضحوكا صاخبا مع أصدقائه الرجال الذين يشاركونه الشراب والسهر، نراه منفتحا على الناس في براءة وطيش من لم تكسره التجارب. يبدو الأمر كقطع صغيرة من صورة كبيرة نعلم أنها ستتضح لاحقا.
يبدو الموت قاسما مشتركا في الأفلام الثلاثة التي أخرجها لونرغان، تعيش شخصياته تحت وطأته. الأخ والأخت (لورا ليني ومارك رافالو) في فيلمه «يمكنك الاعتماد عليّ» (2000) تخيم على حياتهما وفاة أبويهما في حادث سيارة وهما صغيران. وتعيش الصبية ليسا كوين (آنا باكوين)، الشخصية المحورية في فيلمه «مارغريت» وسط مأساة تسببت فيها في حادث حافلة نجم عنه وفاة شخص. وفي «مانشستر على البحر» تجبر مأساة عائلية جديدة لي على العودة إلى بلدة «مانشستر باي ذا سي»، حيث يتوفى جو (كايل تشاندلر) شقيقه الأكبر، تاركا ابنا مراهقا بمفرده.
عودة لي لبلدته ليست عودة حنين، بل عودة يكره عليها إكراها، فهناك في تلك البلدة سيواجه أشباح الماضي الذي لا قبل له على مواجهته. إنها عودة باردة كذلك الجليد الذي يكسو البلدة الصغيرة ومرفأها لصيد السمك. إنها مواجهة تحتاج لتأهب نفسي، حيث نسمع لي متحدثا في الهاتف مع من أخطره بوفاة أخيه قائلا «لابد لي أن أتغلب على هذا المكان». إنها البلدة حيث المواجهة مع الذات ومع الآخرين، البلدة التي يعود إليها ليجد النظرات والهمس بأنه «ذاك الـ «لي تشاندلر»، ذلك الشخص الذي لا نعلم حينها إن كان الهمس الذي يلاحقه ناجما عن مأساة أو سوء سمعة.
ولكن لونرغان، الذي كتب أيضا السيناريو شديد الإحكام والحساسية والإنسانية للفيلم، لا يكشف عن المأساة التي يرزح تحت وطأتها لي إلا في منتصف الفيلم، في مشهد، على هول ما يصوره من فاجعة، لا يعمد قط على استدرار عاطفة المشاهد ولا إلى البكائية والنواح. إنه مشهد تقريري وتوثيقي إلى حد كبير، بل إن لونرغان ينجح في وضع لمسة ضاحكة وسط المأساة. وسط النار التي تلتهم كل شيء، يتعمد لونرغان أن يلفت انتباهنا إلى حمالة المرضى بعربة الإسعاف التي تأبى إلا بصعوبة أن تدخل في مكانها في العربة.
كيف يمكن للمرء أن يتعامل مع فجيعة فقد صغاره؟ وكيف يمكن أن يعيش مع هذا الإحساس بالذنب والألم أنه من تسبب في رحيلهم؟ كيف يمكن للمرء أن يعيش مع نفسه بعد المأساة؟ لونرغان يربأ بفيلمه في إجابته على هذه الأسئلة أن يسقط في البكائية والنواح. يجد لونرغان أن للعيش مع الحزن يجب إلهاء النفس بالروتيني والعادي: الذهاب إلى المحامي، ملء الاستمارات، الترتيب للجنازة، إلهاء العقل بصف السيارة أو إبعاد الجليد أو ترتيب الثلاجة. أشياء صغيرة تشتت العقل عن التفكير في المأساة.
وكما ينأى لونرغان بـ«مانشستر على البحر» عن أن يسقط في هوة البكائية، أو في الإطار المستهلك لفقد الابن، فأنه ينأى بفيلمه عن الثيمة المتكررة لشخصين مختلفين كل الاختلاف يجدان ملاذا عن العالم في بعضهما. باتريك، ابن شقيق لي المراهق (لوكاس هيدجيز، في أداء متميز) له شخصيته القوية المرحة وعلاقاته النسائية وصداقاته. قد يكون في بعض الحاجة لعمه ولكنه ليس بالمتواكل عليه ولا بالمعتمد عليه عاطفيا.
يبدأ الفيلم ونحن لا نفهم لي الصموت الغاضب، وينتهى ونحن نود أن نربت على كتفه الذي هده الألم، نود لو في إمكاننا أن نحمل عنه قدرا يسيرا من حزنه أو نرسم ابتسامة على وجهه.
(القدس العربي)