محاولات لاختيارها في العام 2018: هل تصلح مدينة البصرة لأن تكون عاصمة للثقافة العربية؟

صفاء ذياب: بمجرّد أن تتمشى قليلا في أي شارع من شوارع مدينة البصرة، ستعلم أنك أمام خربةٍ من الصعب عليها أن تكون مدينة، فهل هذه التي كانت تسمى في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي فينيسيا الشرق؟
ربما يتعجب من يسمع هذه الجملة من أبناء الجيل الجديد، فمنذ أن دخلت البصرة في ساحة الحرب العراقية الإيرانية مجبرة، توالت عليها الخرائب، حتى عدّها البعض بأنها مبغى للخراب، ليستمر هذا المبغى منذ ثمانينيات القرن الماضي وصولا إلى العام 2003 الذي خرجت فيه البصرة عن كونها مدينــــة فعلا، فالريف المغتني بسرعة فائقة هجم عليها، والبيوت المبنية خارج القانون أصبحت هي القانون نفسه، وأنهارها التي كانت تحمـــــل على كتفيها كازينوهات وحدائق نضرة، أصبحت مستنقعات لا يتمكن أحد من الاقتراب منها..
كل هذا الأمر وهو طبيــــعي جدا في مديـــنة تقــــع جنوب بلد لا يأفل بالمدنية ولا بالثقافة ولا بالوعي وسط خراب الأحزاب السياسية وتسلط من يدّعون التديّن، وتــرؤس أميين لأهم مؤسسات الثقافة.. لكن أن يطالب بأن تكون البصرة عاصمة للثقافة العربية للعام 2018.. هنا تكمن المشكلة الأكبر..
يتساءل الكثير من المثقفين والأدباء والفنانين عن مكان واحد يمكن أن تقام فيه فعاليات عاصمة الثقافة العربية! فهذه المدينة لا تمتلك قاعة حقيقية واحدة من الممكن أن يقام فيه حفل الافتتاح، وهذه المدينة تخلو من مسرح مجهز ستعرض فيه المسرحيات التي تشارك في مهرجانات المسرح.. وماذا بشأن السينما؟ هل توجد قاعة عرض واحدة في المدينة؟ وهل ما بناه أصحاب أحد المولات في المدينة من قاعات سينمائية يمكن أن تسعف مئات الأفلام المقترحة للعرض في الفعاليات؟
التساؤل الأصعب الذي يرد على بال المطالبين بالإسراع في إنشاء بنى تحتية ثقافية للمدينة، هو رؤوس الأموال التي ستصرف على الإعمار، في الوقت الذي تستقطع الدولة العراقية من رواتب الموظفين من أجل سد العجز الحاصل في الميزانية منذ أكثر من سنتين؟ وهل ستكون البصرة منجما لسرقة الأموال مثلما حدث في فعاليات بغداد عاصمة للثقافة العربية في العام 2013؟
أسئلة كثيرة تبقى غير قابلة للفهم، والإجابة عليها مطروح للزمن الذي تختار فيه مدينة غير مؤهلة لأي فعلٍ ثقافي لأن تكون عاصمة للثقافة العربية..

بانوراما الخراب

ومن أجل الوقوف على آراء بعض أدباء ومثقفي المدينة، يتحدث الكاتب والمترجم الدكتور عبد الستار الأسدي مبينا أن البصرة تستحق أن نَبّذلَ قصارى الجهد لأجل ازدهارها، وهي صاحبة التاريخ العريق.. إذ كانت ملتقى الشعر والعلم والفلسفة وصناعة الكلم.. ولمَ لا تكون البصرة عاصمة للثقافة العربية؟.. هل هي مجرد أمنية أو أن هناك برنامج عمل: نضع الخطة ونحدد الهدف ونرصد المال ونبني الإنسان ونحترم الزمن.. أم ترانا نحث خطىَ وما شُيّد مسرح وما اُقيمت دار أوبرا الموعودة وظلت السينما حبرا على ورق وما اُقيمت القاعات والشوارع وديان وتلالحتى اضحت البصرة بركة كبيرة تشرب من ماء مجاريها وامتلأ نهر العشار بالنفايات، ومن ثم أين المكتبات وقد مات (فرجو) وتهدم (عراق سبورت) و(متحف التاريخ الطبيعي) و(الكازينوهات) و(حديقة الأمة)… بل إن المكتبات ملأى بالكتب النادرة والمهمة، لكن لا أحد يقترب منها..
مضيفا: أن تكون البصرة عاصمة الثقافة فرصة لنقف ونتأمل.. فرصة لإعادة بناء المدينة ومقر اتحاد الأدباء والكتاب فيها.. لكن التساؤل المهم هو: إلى متى نظل بالخربة والنهر الآسن جار بيوتنا الدائم… نعم أن تكون البصرة عاصمة الثقافة فرصة لأن يقام متحف بدر شاكر السياب ومحمود البريكان ومحمود عبد الوهاب.. فرصة أن توزع الأراضي والمخصصات.. نعم تستحق البصرة أن تنهض من جديد في الوقت الذي لا تعضيد فيه للأديب، وفي الوقت الذي تستمر مجلات ثقافية مهمة بالتوقف… تستحق البصرة أن تنهض، لكنها لم تزل مجرد بانوراما من خراب!

حنث الماضي

ويطرح الدكتور فراس جميل الشبيبي تساؤله بشكل مغاير: هل يمكن للبصرة كمدينة (الحظ العاثر) تجاوز أزمة الاختبار والاختيار كعاصمة للثقافة العربية؟ لا أعلم، لكني يمكن أن أسترشد حلما مترفا ومترفعا حلمه ابن البصرة المفسر للرؤى ابن سيرين، هذا الحلم يحكيه صاحب القمرة الحسن بن الهيثم، إذ تحدّث بجزل عن أزمان وأوقـــات سيأتي فيها بشر نظروا واقعهــــــم بفعل «السكوت»، فيكون الزمكان جامدا، بعد أن خربت الأديرة والأرض، وأصبح العالم مرتحلا، والأديب بوقا رفيعا بلا صوت، وطالب العلم حارس في حقلٍ ميت.. يعلق ابن الهيثم على هذه الرؤيا بإعجاب زمكاني كبير ومتفائل، عندما يتوقف/ يتكوم الزمكان، ربما سيحتضر ليقفل بوابته ويعلن الحنث عن الماضي، ويرشق المستقبل بشظايا جديدة، فيما يفسر مبدع (بصرياثا) محمد خضير الرؤيا بعبق متفائلا أكثر، ربما سيأتي يوم على المدينة وهي تحتضن الآلاف من آلات الموسيقى وترقص شوارعها على أنغام الرؤى الجديدة للقاء… غير أن الشاعر (كاظم الحجاج) يعلّق بنبرته الساخرة «الدمعة ماءٌ مسجون ينتظر الحرية من حزنٍ قادم»!

بنى تحتية

الشاعر والفنان التشكيلي هاشم تايه يرى أنه إذا كان العائق الأكبر لإنجاح مشروع (البصرة عاصمة الثقافة العربيّة العام 2018) مقصورا على بنى تحتيّة غير مؤهّلة، حاليا، لاحتضان الفعاليات، والأنشطة، والوفود، فإنّ أمام القيّمين على المشروع عاما لتأهيل هذه البنى، واستحداث بنى تحتيّة جديدة ملائمة، وذلك يتطلّب ميزانيّة ماليّة كافيّة، وإرادة حقيقيّة، وإدارة ذات كفاءة وخبرة ونزاهة. معتقدا أن الاستعانة بخبرة أجنبيّة تعمل في مجال إنجاز متطلبات مشاريع ثقافيّة كبيرة ستكون نافعة جدّا في مضامير التأهيل، والإعمار، والبناء، والإشراف، والتنظيم.
مضيفا أن الأمر المهمّ يتعلّق، كذلك، بالجهة المركزيّة التي ستتولى إعداد فعاليات أيّام هذا الحدث، واستعدادها للاستفادة من وجهات النظر المختلفة للمهتمين والمعنيين بالثقافة، والمعرفة، والتاريخ، والفنون في بلادنا، بالتحاور معهم، وبإشراكهم، إشراكا مكفولا، في رسم مادة الحدث، وصورته في أيّامه بحيث تعكس هذه الصورة الأبعاد الثقافيّة المختلفة للمدينة… وهناك، طبعا، ضرورة إشاعة أجواء حريّة، وانفتاح، وتقبّل ثقافي للتنوّع بمختلف مسمّياته يجب أن ترافق أيّام هذا الحدث، في مدينة كالبصرة ما تزال تعاني من تسلّط قوى عديدة تعمل بتفويضات شتى، وتسدّ، أو تحاول أن تسدّ، منافذ حريات مطلوبة لا يمكن أن ينتعش من دونها حدث ثقافي مهمّ بحيويّة، وتفتّح، وإشراق، وبهجة.

ثقافة الريف

من جانب آخر يفرح الكاتب عبد الحليم مهودر بهذا الاختيار الذي يعده شرفا للمدينة، لكنه لا ينسى المأساة التي تمر بها: «لكن يجب أن نتسال عن أي ثقافة؟ فالثقافة حياة.. فهل تعيش مدينتنا ثقافة؟
ويستمر مهودر في كلامه بعد هذا التساؤل: إن مدينة البصرة تتراجع في حياتها ككل مدينة ليس فيها دار عرض سينما وليس فيها قاعة للعروض المسرحية و.. ليس فيها حتى أبسط قاعة للمعارض أو للفنون التشكيلية.. أما حياتها فهي خاوية، لقد تركها مثقفوها وفضلوا الغربة، وتركها المسيحيون والمندائيون خوفا، هذا الخوف الذي يلف شوارعها.. فضلا عن تسيّد ثقافة الريف (العشيرة)، حتى أصبح الإنسان فيها مستغنيا عن المحكمة والقانون!
ويعتقد مهــــودر أن تراجع المجتمع وإحلال ثقافة الريف أدى إلى غياب شكل المدينة ومضمون الثقافة فيها، إضافة لتسلط التيار الديني الذي هو ابن لهذه الثقافة، جعل سلطة القرار بيد من لا أهليّة له بالتخطيط.. وﻻ يظن مهودر أن هذه الفئة سوف تعطي ثقافة ما تنهض بمدينة تخلو من بنية ثقافية.

تخطيط غير مدروس

وحسب الشاعر واثق غازي، فإن علينا أن نعي جيدا أن الثقافة لن تكون بالضرورة أبنية، وشوارع وفنادق فخمة، وليست دورا للسينما ولا مسارح كبيرة أو صغيرة، ولا نوادي ليلية اجتماعية وترفيهية، الثقافة ليست ملصقا دعائيا نضعه عند الحاجة، ونستخدمه لمرة واحدة فقط، الثقافة ليست مجموع فضائيات تُجسمُ حدث ما أكبر من حجمه الحقيقي مئات المرات، الثقافة ليست سلعة نستطيع صنعها أو نستوردها متى نشاء… بل إن الثقافة بناء مجتمع إنساني قادر على الحفاظ على أصالة تقاليده حين تتضرر المعادلات الإنسانية ويخرج منتصرا كونه استطاع الحفاظ على أجياله من الضرر الذي وقع. بهذا المعنى تكون الثقافة الأساس الحقيقي لوجود الإنسان، ويصبح قادرا على أن يصدرها مطمئنا لتحسين حياة الآخرين، وهذا المفهوم للثقافة غير مستقر في بنية مجتمعاتنا العربية كافة، لذا لن تجد مدينة عربية تستطيع أن تصدر ثقافتها، لا المحلية المبنية على أساس التراكم المعـــــرفي، ولا الإنسانية التي تتشارك بها مع بقية البشر.
المدن العربية محميات بشدة من التطور، وهنا نجيب عن السؤال: هل تصلح البصرة عاصمة للثقافية العربية؟ فنقول وهل البصـــــرة في منأى عن الخراب المحيط بها في العراق وفي العالم العربي، خاصــــة وهي المدينة التي تكاد تكون الأكثر خرابا عمرانيا والأكثر تشوها فيما يدس في رحمها من بناء بلا تخطيط مدروس، البصرة لن تصلح أن تكون إلا برميل نفط يضمن بقائها ضمن مدن الجدب المعرفي.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى