‘فوق رصيف بارد’ وثيقة شعرية لغربة شاعر عربي في أوروبا

سفيان رجب

في المجموعة الشعرية “فوق رصيف بارد” للشاعر التونسي رضا العبيدي المقيم بفرنسا، وهي المجموعة الفائزة بجائزة معرض تونس الدولي للكتاب في دورته الجارية هذه الأيام، يضعنا الشاعر منذ عتبة الكتاب أمام ما يحمله العنوان من دلالات الضياع والتشرد والصقيع في ليل أوروبا، كما يكتب في قصيدة أمطار التعارف “آناء اللقاء الخاطف، تحت أمطار مفاجئة، كانت أسناني تتساقط متكتكة كساعة حائط”.
غربة الشاعر

أول ما تمسّ الغربة في الشاعر تمسّ لسانه، أليست اللّغة هي الوطن الحقيقي للشاعر، حين صرخ الكاتب الجزائري مالك حداد “الفرنسية منفاي”، كان يدرك جيدا معنى أن تكون عربياّ وتكتب بلغة أخرى، وفي أغلب قصائد الشعراء العرب المغتربين نجد تضمينات في نصوصهم بلغات أخرى أو كتابة العناوين والأسماء بلغتها الإنكليزية أو الفرنسية، مثلما نلاحظ ذلك في أشعار سعدي يوسف أو سركون بولص أو فاضل عزاوي أو غيرهم، ناهيك عن الذين يكتبون باللغات الأخرى وهم كثر، وهذا بتأثير البيئة اللغوية للمكان، أو للتوظيف الرؤيوي الذي يستعمله الكاتب لتبليغ الحالة النفسية التي تتركها الكلمات الدخيلة في نفسه.

قصائد رضا العبيدي لم تسلم من تسرّب بعض المفردات الفرنسية جاءت على شكل جمل أو على شكل عناوين لأماكن وأسماء لها، والشاعر وظّفها بوعيٍ ولم يسقطها إسقاطا في نصوصه، حين نقرأ مثلا قصيدته “بساط عائم” وهو يستحضر المركب البرتقالي الصغير قبالة مياه ميناء تولون، ويذكر لنا اسمه بالفرنسية:

Les sauveteurs en mer فكأنه يريد أن يضعنا في المكان، فيمرّ أمامنا المشهد بكلّ تفاصيله، وحين يذكر لنا الجملة التي تردّدها ابنته في قصيدة “بيت”:

Moi aussi je t’aime papa وهذه الجملة تختزل الدمار النفسي الذي تتركه اللّغة في وجدان الإنسان المغترب وفي لسانه الذي يتشقّق من العطش كما يكتب في أحد نصوصه “لساني الطويل مثل برج إيفل، المشقّق بالعطش، والغازل حريره في صبر دودة، عضّة واحدة من أسناني، على هفوة من هفواته، كفيلة بوضعي دفعة واحدة في فم التنين”.

الإنسان في غربته يرى الأشياء بوجدانه لا بعينيه كما يقول برغسون، فالغريب تستثيره الأشياء الغريبة مثله، حين رأى “صقر قريش” الغريب في الأندلس نخلته الوحيدة بين الأشجار الأخرى والتي جاء بها من المشرق ليزرعها في رصافة الأندلس، أنشد قصيدته الشهيرة التي يقول في بيت منها: نشأْتِ بأرضٍ أنتِ فيها غريبة، فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي.

كذلك نجد رضا العبيدي في كتابه “فوق رصيف بارد” الصادر هذه السنة عن دار رسلان بتونس، منصتا للأشياء الوحيدة والغريبة، والتي تحاكي أحاسيسه، حين يكتب عن الباب مثلا، فيقول “الباب المشدود إلى الحائط، ينفتح، وينغلق، دون أن يقدر على المغادرة ولو لفسحة صغيرة، محكوم عليه ألاّ يجتاز العتبة”. ثمّ يتحدّث الشاعر عن ذاكرة الباب الذي كان شجرة، ليختتم قصيدته بهذا المقطع القاسي الذي يقول فيه “وحتّى لا تُرى دموعه (يقصد الباب) لدى كلّ انفتاح أو انغلاق، طُليَ بالأزرق”، تماما مثل الكائن الحزين الذي يُطلى بالفرح في المدن الرأسمالية المتوحّشة.

كما يكتب الشاعر عن التفاحة الوحيدة في حديقة البيت المهجور التي لا يأكلها أحد، وعن النجمة الوحيدة، وعن البيت المنعزل، وعود الثقاب الذي يُطفئه لهاث مشعله، وكلّ هذه الرموز اشتغل عليها الشاعر كأمثولات للتعبير عن غربته، بل إنّ الكتاب كلّه يمثّل وثيقة شعريّة لغربة شاعر عربيّ في أوروبا، حيث الفتى العربيّ فيها غريب الوجه واليد واللسان.

نصوص الشاعر لا تحتاج وساطات بينها وبين القارئ فهي مفتوحة في مقروئيتها وتبتعد عن التهويمات والتناصات المعقدة

الانطلاق من الفكرة

يعتبر رضا العبيدي من جيل تسعينات القرن الماضي في الشعر التونسي، وقد اختار قصيدة النثر كخيار جمالي ورؤيوي، وبعد كتابه الأول “الوردة ملء الليل” يأتي كتابه “فوق رصيف بارد” كتعميق لتجربة شعرية لها فرادتها، وقد تخلّص الشاعر فيه من زوائد الكتابة والتهويمات التي لمست البعض من نصوصه الأولى، فبدت قصائد هذا الكتاب أكثر تماسكا وانسجاما مع الأفكار التي اشتغل عليها الشاعر.

رغم أنّ نصوص العبيدي لا تحتاج إضاءات أو وساطات بينها وبين القارئ فهي نصوص ذات مقروئيّة مفتوحة وتبتعد عن التهويمات والتناصات المعقّدة، إلاّ أنّه اختار أن يرفق بكتابه مقطعين متعلقين بقراءتين لتجربته، الأولى للشاعر المغربي مبارك وساط، ويقول فيها “رضا العبيدي هو شاعر تونسي متميّز كلّما قرأت له قصيدة يزداد توقي إلى قراءة المزيد ممّا تجود به قريحته”. وتكتب ليلى عطاء الله في القراءة الثانية “نصوص رضا العبيدي تطيّر الصواب، تستفزّ القارئ وتدعوه إليها”. هما قراءتان عاشقتان لم يتجاوز إيرادهما في الكتاب أكثر من الهاجس التسويقي له حسب رأينا.

مكامن الدّهشة عند العبيدي هي في استعاراته التي يلتقطها من أعماق تجربته في الحياة كما يلتقط الغوّاصُ المحارَ، ويختزل بها الأحداثَ والأزمنة والأمكنة، مثل هذا المقطع “الهلال من نافذتي، منجلٌ منسيّ في حقلٍ مهجور منذ حصادٍ قديمٍ، والنجوم نقاطُ دمٍ، تبقّع بياض عينيّ فتحْمرّان وتدمعان كعينيْ السّكران”.

عادة ما يبدأ الشاعر قصيدته بفكرة صغيرة، ثمّ يوسّعها بالاستعارات والتشابيه، لتأخذ معمارها اللغوي المتماسك بطابعه الأصيل، وبالتقنية ذاتها اشتغل على جلّ قصائد الكتاب التي تجاوزت مئة قصيدة، ليخرج لنا في النهاية بعملٍ شعريّ مهمّ يستحقّ القراءة والاهتمام النقديّ.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى