مذكرات شوقي أبي شقرا: شهيد «القلم الأحمر» يثأر لنفسه في مرآة غرفة النوم
رشا الأمير
قَلَّ، والقِلَّةُ بالعربيَّة نظيرُ العدم، مَنْ كَتَبَ بالعربيّة أو قرأ فيها، خلال العقود الماضية، ولا يشعر أنه مدين، على نحو ما، بشيء ما، لشوقي أبي شقرا. فإن يُذكر أبي شقرا تذكر «الصفحة الثقافية»، والمقصود بالطبع الصفحة الثقافية في أعرق جرائد لبنان وأمدها عمرًا «النهار».
بالطبع، ليس جهادُ أبي شقرا طيلة سنواتٍ تَعْدِلُ عمرًا (1964 1999 أي خمس وثلاثين عامًا)، وراء مكتبه في «النهار» كُلَّ ما في سيرته. فقبل «النهار» باشر بتجميع أوراق اعتماده في دنيا الأدب والثقافة، وبعد مغادرته «النهار» مدحورًا، شأن آخرين من أعمدتها، على يد الجيل الثالث من السلالة التوينيّة، سعى للإطلال على الساحة البيروتية، من خلال منابر أخرى، وفي كل هذه الأثناء لم ينقطع عن النشر، فصدر له ابتداء من 1959 ما يزيد على عشرة دواوين أكّدته شاعرًا على حدة بين شعراء العربية من أبناء جيله.
تحت وطأة الشعور بدَيْنٍ لا أحسن تفسيرَه، ولا بيانَ أصله وفصله، بل تحت وطأة تهيّب غامض، تناولت مذكرات شوقي أبي شقرا، ولا أبالغ إن قلت تناولتها بكلتا يدي لا بيد واحدة فقط؛ فهذه المذكرات تقع في ثمانمئة وست عشرة صفحة (17x 24 سم)، وتزن ألفًا وأربعمئة وخمسة غرامات بالتمام والكمال، أي أقل من كيلوغرام ونصف الكيلوغرام بقليل، وأعترف، ولا يضيرني الاعتراف بأنني بين يدي كتاب بهذه المواصفات لا أعرف من أين يجب أن أبدأ بالقراءة. من ثم ألقيت حبل مطالعتي هذا الكتاب على غاربه، وإن هذه الكلمات إلا انطباعات من وحي سياحة حرة في مذكرات شوقي أبي شقرا أكثر منها قراءة منهجية فيه.
في الجولة الثانية أو الثالثة من سياحتي في الكتابِ الموسومِ إلى ما يفترض أنَّ عنوانُه الرئيس «شوقي أبي شقرا يتذكَّر» بعنوان ثانوي هو «كلمتي راعيةٌ وأقحوانةٌ في السهول ولا تخجل أن تتعرى»، قلت لي: «آن الأوان للعودة إلى الأوَّل». وهذا ما كان، وبوَّأتُ الكتاب محله من الطاولة، وشرعت بالمطالعة، ولكم كانت دهشتي كبيرة من السّرعة التي يطوي بها أبي شقرا سيرة ربع القرن الأول من حياته الشخصية والمهنية وصولاً إلى التحاقه بـ«النهار» على يد صديقه اللدود أنسي الحاج.
حق المتذكر، أيما مُتَذَكّر، أن «يُمَنْتِجَ»( يركبّ بلغة الشرائط السينمائيّة) الذكريات التي يقرر أن يضعها في التصرف العام على نحو ما يشاء، فيُعْمِل المقص هنا أو هناك، ويلقي في سلة المهملات هذا أو ذاك. استطرادًا، لا عتب على أبي شقرا أنَّه لم يستفض أكثر في سرد طفولته وحداثته، أو بداياته الأدبية في «حلقة الثريا» أو المهنيّة في «البيرق» و«الزمان» وإنما خلاصة، هي، في الحقيقة، ما يتصدر اهتمام القارئ بهذه الشهادة، ويُخرِجُ الاهتمام بها من الدائرة الشخصيَّة، ومن دائرة «ما يطلبه المريدون»، إلى مكان أعمّ خلاصة مفادها أن شوقي أبي شقرا ولد، على ما لا يكلّ ولا يملّ من وصف نفسه، ومن تعداد مآثرها، ومن الوقوف تبجيلاً لها، إنما ولد تحت برج «النهار»، وأنما تفتّحت مواهبه بفضل ما قلّدته إياه تلك المؤسسة من مسؤوليات، وما أتاحته له من هوامش.
بصعوبة يمكن المرء اليومَ أن يُرافع عن «النهار» كمؤسسة حطّمت أرقامًا قياسيّة في العقوق، بأولئك الذين واللواتي صنعوا مجدها، أو عن النهار كصحيفة يومية في شحوب وهزال مطّردين يكاد الواحد(ة) أن يتمنى لها معهما، لاسيما من شب على مطالعتها، أن يُلْطَفَ بها فتحتجب قسرًا أو عن يَدٍ، ولكن بصعوبة أيضًا يمكن المرءَ أن يهضم كلّ ما ينسبه أبي شقرا إلى نفسه من أياد بيضاء، وكل المديح الذي يكيله على نفسه، وهنا أيضًا فالمسألة لا تتعلق به وإنما بمحل ابي شقرا من «المؤسسة» و«شعب» هذه المؤسسة على ما يُسَمي زملاءه في «النهار»، وبنظرته إليها وإلى أفراد هذا الشعب: فإن يكن من شأن أبي شقرا أن يرى إلى أياديه البيض كيفما يشاء، ومن شأنه أن يرى في طرد حرف «قد» من صفحات النهار فتحًا مبينًا، ومن شأنه أن يعتبر بأنه من أمسك بيد العربية حتى باتت بفضل قلمه الأحمر، «صديقي منذ بدء تكويني ورفيقي المخلص لا ينضب حبره»، «اللغة التي تلائم العصر، وترضي الحداثة بل تؤسس لغة لا يعوزها سوى أن تتحرك من رمادها وزعانفها»، فليس مما يزيد من قدره أن يكون هو الأمرُ كلّه… ولكن لله في خلقه شؤون.
لا أحداثَ جسامًا في سيرة شوقي أبي شقرا ولا عيب في ذلك ولا من يحزنون، ولكن يبدو أنَّ الأمر لا يروق تمامًا لشوقي أبي شقرا فيشحن كتاب ذكرياته بشهادات في العشرات ممن أجاءته المهنة، على مرّ العقود، إلى أن تتصل بينه وبينهم صلة معرفة أو صداقة. صحيح أن رائحة الممالأة المجّانية والتودد الزَّنِخ تفوح من معظم هذه الشهادات، ولكن الأمر لا يقف عند هذا الحدّ. فإن تبلغ «الكثافة السكانية» في مذكرات أبي شقرا هذا المبلغ، وأن تحتلّ شهاداته في فلان وفلانة أكثر من ثلثي الكتاب مدعاةٌ إلى الافتراضِ بأنَّ قطعةً لا بأس بها من حياة أبي شقرا وديعة مودعة لدى الآخرين، وإن كانوا من أهل القلم، فوديعة مودعة في نصوصهم التي مرَّ بها، وعليها، قلمه الأحمر. وباستثناء أفراد قليلين، )على رأسهم أدونيس(، يُلمّح أبي شقرا، وهو الكاره للتصريح، إلى انقطاع حبل الود بينه وبينهم، لا يملك المرء ألا يُدْهش من سخائه في إغداق الحمد والثناء على الآخرين، لا سيما أبناء الصنف منهم الصنف الأدبي. مقول القول إنّ مذكرات أبي شقرا هي أيضًا، في عداد ما هي، كتاب في التراجم، بالمعنى التراثي للكلمة، أي كتاب في السير، ولا بأس بذلك لولا أن الترجمة لفلان أو فلانة من الناس تضع المترجم نفسه، ودقة حكمه، في الميزان. وبما أن الكثيرين ممن يترجم لهم أبي شقرا ما يزالون أحياء يرزقون يدبون على وجه البسيطة ويستعرضون أنفسهم، كتابة وسلوكًا، على الملأ، فما يقوله أبي شقرا فيهم لا يحتمل الطعن فيه وفي صواب شهاداته في هؤلاء فقط، بل يحتمل الطعن في نزاهة هذه الشهادات.
والشيء بالشيء يذكر والترجمة بالترجمة تذكر. والترجمة المقصودة هنا هي المعنى الأول الذي يرد إلى الخاطر، متى ما ذكرت هذه اللفظة: نقل نص ما من لغة إلى أخرى. الترجمة، كما يعرفها أبي شقرا نفسه، «تنقل الشاعر العربي، إلى اللغة القوية، إلى الفرنسية، أو إلى الإنكليزية»، وهذا ما لم يُكتب له (رغم ما تبدو عليه شبكة صداقاته من وساعة) بل أكاد أن أؤكّد، بشهادة العشرات من الالتفاتات والإلماحات التي يتضمّنها الكتاب، من أوله إلى آخره، أن «الجرح الرمزي» الذي يتوارى وراء خيلاء أبي شقرا في كلامه عن نفسه وعن شعره، ووراء شهادات الآخرين فيه، (وبعض هؤلاء الآخرين أدنى شأنًا ومقامًا من أن يفتخر هو بشهاداتهم)، هو مَضَضُ الإقامة في العربية… في اللغة الضعيفة! نعم، يحبّ أبي شقرا لنفسه أن يكون من هذه اللغة المُجَدّد، وأن يُسلك في سلك أمراء العربية من أبناء جبل لبنان، ولا يستحي أن يكون من هذه اللغة الزَّبّال أحيانًا: «وساعدتُ اللغة العربية كثيرًا، وحاولت أن أنظّفها من المثقلات والطفيليّات، ومارست ذلك في مجلة شعر وفي مجلة أدب منذ أوائل الستينيات، ثم جريدة الزمان في بيروت إلى حين انتقلت إلى جريدة النهار حيث قتلت صراصير الكلمات والبرغشات…»، ولكن النفس أمّارة بالطمع.
في رصيد شوقي أبي شقرا كل هذه المأثر والفتوحات إلا أنَّها لا تكفي لكي يجتمع له المجد من طرفيه: لا مجد خارج «اللغة القوية»، وليس هذا الشعور بالمجد الناقص شيئًا ما، وليس هذا الشعور بالأسى بأنه لم يتح له، أي لشعره، أن يُهاجر إلى «اللغة القوية» مما يعيب أبي شقرا، ولا هو فيه بفريد عصره: مضى على الشعر العربي في الثمانينيّات ومطلع التسعينيات ما يمضي اليوم على الرواية: لا تتم من الشاعر أوراق اعتماده، حتى بين أقرانه وبين بني لسانه، ما لم يتهيأ له موطئ قدم في «اللغة القوية»، وبهذا المعنى فمرارةُ أبي شقرا المبعثرةُ في مُنعرجات مذكراته، بأنه فشل في منافسة بعض مجايليه في هذا الميدان، رمية من غير رام، تشفع لمذكّراته بوصفها «وثيقة»، ولو أن هذا الوجه الوثائقي من المذكّرات لا يشيل في الميزان ولا يرجح قياسًا بما يعثره حماره، حمارُ أبي شقرا من عثرات، بل قل، متابعة لعنوان ديوانه «سنجاب يقع من البرج»، بما يقعه سنجابه من وقعات مدوّية متى ما انصرف إلى الترجمة… أعني إلى علم الرجال والنساء.
لا يجزم شوقي أبي شقرا في تاريخ ميلاده «ولدت عام 1934 على الأرجح… وربما ولدت عام 1935»، ولكنه يعرف جيدًا أنه غادر «النهار» وصفحتها الثقافية عام 1999، ويعرف جيدًا أنه «حين تركت، (يقصد، ترك «النهار»)، لم يفكر أنسي الحاج أنه سيصيبه ما أصابني».
صحيح أن «طرد» الحاج من النهار، (ولفظة «طرد» ترد تحت قلم أبي شقرا في الصفحة الآنفة الذكر)، تأخّر إلى عام 2003، ولكن فارق الأربع سنوات بين الطَّرْدَيْن، باعتبار أنّ مصابهما على يد آل التويني واحد، لا يُقَدّم من شيء ولا يؤخر، على غرار ما أنّ أقدميَّة الحاج في «النهار»، وهي أقدمية عائلية، لا تبخّس من جهاد أبي شقرا النَّهاري ولا تحط منه. وهو كذلك، لأن الأمر انتهى بكليهما، الحاج وأبي شقرا، إلى مصير يكاد أن يكون هو نفسه: أنسي الحاج انتهى إلى الكتابة في جريدة «الأخبار» وأبي شقرا انتهى إلى الكتابة في جريدة «البناء» وكلا الجريدتين، على ما هو معروف، وعلى اختلاف ما بينهما من حيث الجودة المهنية والبروباغانديّة، منصّة من منصّات «المقاومة» وشركائها. هنا أيضًا، شر الاثنين أن تُحْمَلَ المضاهاة بين الرجلين، بين ما انتهى إليه هذا وما انتهى إليه ذاك، على الشخصي، أو على الشماتة والتشفي. أو قل هي شماتة، نعم، لا بالاثنين وإنما ببلدٍ، هزيم، من علاماتِ اندحاره العميق أنْ يَرِثَ الثنائيُّ «الأخبار/البناء»، «الثنائيَّ الأقرب إلى الشَّيْطَنة» الحاج/أبي شقرا.
بتهيّب دققتُ باب هذه المذكرات؛ وإذ أطوي المجلد الثقيل، والكتاب للعلم بالشيء مجلد تجليدًا كرتونيًّا، وأجيل النَّظَرَ في رفوف مكتبتي باحثةً له عن مكان لا يزْعجُ فيه أيًّا من جيرانه ولا يَزْعَجه فيه أحد، أتساءل: «أيّ شيء هذا الكتاب؟» ومن كلّ الجوابات التي تخطر لي لا يقنعني إلا جواب واحد: هذا ثأرُ شوقي أبي شقرا، شهيدِ «القلم الأحمر»، الذي اكتشف متأخّرًا، على ما يبدو، كم أفنى من عمره ومن بريق حبره في سبيل الآخرين ثأرُ «فتى الهيكل» لنفسه، من أعداءٍ طواحينِ هواءٍ افتراضيين، في مرآة غرفة النوم.
شوقي أبي شقرا يتذكّر . كلمتي راعية وأقحوانة في السهل ولا تخجل أن تتعرّى.. تجليد كرتوني، دار نلسن والحركة الشعريّة في المكسيك.
(القدس العربي)