‘جسر سان لويس راي’ للأميركي ثورنتن وايلدر
هيثم حسين
يستعيد الأميركي ثورنتن وايلدر (1897 – 1975) في روايته “جسر سان لويس راي” (عالم الأدب، القاهرة، ترجمة قاسم حسن درار- 2016) حادثة انهيار جسر في بلدة ليما في جبال الأنديز في البيرو سنة 1714، ووقوع خمسة مسافرين في الخليج على إثر ذلك، ويحلّل كيفية تلقي الناس للخبر وتعاطيهم معه من زوايا مختلفة.
يفرض وايلدر إعادة تأويل الجسر واعتباره فاصلاً واصلاً بين عالمين وماهيّته ودوره في الجمع والتقريب بين المتباعدين، وكذلك إعادة اكتشاف الجسر الوحيد الذي يربط بين أرض الأحياء وأرض الأموات. وتراه يربط بين الأزمنة والتواريخ وتكون شخصيّة المغنّية كاميلا جسراً بين تلك الأزمنة وظلالها وأحداثها.
تتمّ إزاحة النقاب عن كتاب الراهب المغدور جونيبر الذي تمّ إعدامه وحرقه ويعاد الاعتبار له وللضحايا الذين كتب عنهم وتقصّى سيرهم وكشف أثناء ذلك مشقة فنّ كتابة السيرة وسط ألغام التلفيقات والتأويلات والشكوك التي لا تستثني أحداً منها.
يقسم وايلدر روايته، التي كانت قد تحوّلت إلى فيلم سينمائيّ قبل سنوات، إلى خمسة فصول هي “ربما حادث” و”ماركيزا دي مونتيمايور” و”إيستبان” و”العم بيو” و”ربما أمر مقصود”.
يوكل لراهب شهد الحادثة اسمه جونيبر مسألة البحث عن أسباب حصول ذلك لأولئك الأشخاص الخمسة من دون غيرهم، وتكون الإشارة إلى احتمالية أن يكون حادثاً عفوياً مقدّراً بداية ثم الاستطراد في قراءة ما وراء التقدير المحتمل إلى النبش في حيوات الأشخاص وماضيهم والسعي للوقوف على تفاصيل مخبوءة قد تدفع إلى معاقبتهم معاقبة إلهية والوصول إلى حالة شكّ تودي به في النهاية.
يشير الراوي إلى أنّ الجسر الذي كان يعبره المئات من المسافرين كلّ يوم كان قد شيّده شعب الإنكا من نسج الصفصاف قبل أكثر من قرن حينها، ودائماً ما كان يشكّل موقعاً سياحياً يقصده زوار المدينة. ويصفه بأنه كان مجرّد سلّم من شرائح رقيقة، درابزين من العنب المجفّف يتأرجح فوق المضيق. وكانت الأمتعة والعربات والخيول تضطرّ لعبور طريق طويل في الأسفل كان الجميع بمن فيهم الحاكم ورئيس الأساقفة يعبرونه من دون أن يشعروا بأيّ خطر.
يذكر أنّه كانت هناك كنيسة من الطين في الجانب الآخر للجسر وأنّ الجسر بدا ضمن الأشياء التي ستبقى للأبد، وكان من غير المعقول أن ينهار. كما يصف أنّه في حالة سماع بيروفيّ بالحادث قام بالتصليب ودارت في ذهنه حسابات كيف أنه مؤخراً قام بعبوره وكيف أنّه كان ينوي عبوره مجدداً في القريب العاجل. ويصف كذلك حالة الناس وهم يتجوّلون في حالة أقرب للذهول يهمهمون وكان لديهم هلوسة برؤية أنفسهم يقعون في الخليج.
يلفت الراوي إلى غرابة التأثير الذي خلّفه الحادث على أهالي بلدة ليما في البيرو وأنّه كان من الغريب أن يؤثر الحادث فيهم بشدّة لأنه بالنسبة إلى بلد حيث الكوارث التي يسمّيها المحامون “أفعال الرب” هي أكثر من معتادة. يقول “تجرف أمواج المدّ والجزر المدن باستمرار؛ تحدث الزلازل كلّ أسبوع، وتسقط كثير من الأبراج فوق رجال ونساء صالحين طيلة الوقت”.
الراوي يتناول حياة الماركيزا دي مونتيمايور وعلاقاتها الاجتماعية ونشاطها في محيطها ودورها الريادي ومساعيها لتغيير بعض العادات البائسة
يتناول وايلدر حالة تأثّر الناس بالحادث وكيف قام شخص واحد فقط بفعل شيء بخصوصه وكان ذاك الشخص هو جونيبر الذي تصادف وجوده هناك حينها وخطر له سؤال مختلف “لماذا حدث هذا لهؤلاء الخمسة بالتحديد؟”. ويقول إنّه لو كان هناك أيّ تقدير في الكون لما كان هناك أيّ نمط في حياة البشر وإنّه بالتأكيد سيمكن اكتشافه متخفّياً بغموض في هذه الأرواح التي فقدت بغتة. يسأل سؤالاً محيّراً له “إمّا أنّنا نعيش صدفة ونموت صدفة أو أنّنا نعيش بقدر ونموت بقدر!”.
يحكي الروائيّ كيف أنّ بطله جونيبر يعقد العزم على سبر أسرار حياة أولئك الأشخاص الخمسة في تلك اللحظة وهم يهوون ليكشف سبب قذفهم، فيقوم بالتفتيش في ما وراء الحادث وينبش في عالم الغيب ويرحل في فضاء الظنون. وبدا له أنّه قد حان الوقت لعلم اللاهوت أن يتبوّأ منزلته بين العلوم الدقيقة، وظنّ أنّه عثر على مختبر مثاليّ لذلك إثر انهيار جسر سان لويس راي، ثمّ يدفع ضريبة إقدامه على الاجتهاد والسؤال والشكّ.
يبدأ الراهب الشاب رحلة الشكّ الذي يفترض أن يفضي إلى الإيمان، لكنّه يضيع في متاهة الشكّ، ويقضي جراء معاقبته على تشكيكه وما وصف بالتعدّي على الإرادة الإلهية، ويتمّ حرق مجلّده الذي قام بجمعه وتأليفه بناء على رغبته في اختباراته التي سعى إليها من خلال للبحث عن دوافع لما يوصف بأفعال الربّ، لكن تنجو نسخة وحيدة وتحفظ في مكان آمن ليتمّ اكتشافها بعد زمن، والاطلاع على تناوله لحياة الضحايا وفهرسة آلاف القصص والحقائق الصغيرة والشهادات وخاتماً بالإشارة إلى الحكمة الإلهية الكامنة وراء ذلك.
يتناول الراوي حياة الماركيزا دي مونتيمايور وعلاقاتها الاجتماعية ونشاطها في محيطها ودورها الريادي ومساعيها لتغيير بعض العادات البائسة، كما يتناول حياة إيستبان ويقتفي أثره في طفولته وفتوّته وتربيته مع توأمه وعلاقاته النسائية ووصوله إلى مرحلة من التمرد تخطى فيها بعض القيود والحدود، ورحلته المفترضة على متن سفينة وطلبه من قبطانها معاملته بطريقة تعذيبية وكأنّه كان بصدد معاقبة نفسه بصيغة ما. بالإضافة إلى العم بيو وغيره من الشخصيات.
راهب مهرطق في جبال الأنديز
بعد إجرائه اختباراته على حيَوات البشر ورصده للخيرين والأشرار منهم ومدى فائدتهم وصلاحهم في محيطهم الاجتماعي وصل الراهب إلى تخمين الحادث نفسه أنّ الشرير زاره الدمار والصالح استدعي باكراً إلى الجنّة. اعتقد أنّه رأى الثروة والغرور قد حطّما في درس عادل للعالم ورأى التواضع يتوّج ويكافأ من أجل تهذيب المدينة لكنه لم يكن مقتنعاً بالاستنتاجات التي توصّل لها، فيقول إنه كان ممكناً أن الماركيزا دي مونتيمايور لم تكن غولاً جشعاً ولا العم بيو غول انغماس في الملذّات.
يروي وايلدر أنّه بعد انتهاء بطله جونيبر من كتابه وقع الكتاب تحت أعين بعض القضاة وفجأة أعلن أنّ الكتاب كتاب هرطقة. ويلفت إلى أنّه أمر بحرقه في الميدان مع صاحبه الذي استسلم للقرار أن الشيطان قد استدرجه ليبدأ مشروعاً وصف بأنه في قمة الروعة في بلدة ليما. وبينما كان قابعاً في سجنه كان يسترجع محطات حياته ورحلته من الشكّ إلى الإيمان وكيف كان شكّه دافعاً للوصول إلى يقين يطمئنه، لكنّه دفع ضريبة تجرّئه على السؤال والتشكيك في زمن تكميم الأفواه وبتر ألسنة المشكّكين.
يختم وايلدر روايته بالتأكيد على رحيل جميع الناس وحتمية موتهم واليقين بأنّ ذكرياتهم تبقى وأنّ الحبّ سيكون كافياً وكلّ نبضات الحبّ ترجع إلى الحبّ الذي صنعها فيقول “حتّى الذكرى ليست ضرورية للحبّ”. يسجّل حكمته التي يودّ أن تكون عبرة الرواية ورسالتها بقوله “هناك أرض للأحياء وأرض للأموات والجسر هو الحبّ الناجي والوحيد والمعنى الوحيد”.
(العرب)