رحل عن عمرٍ يناهز الـ60 عاماً في منفاه الدنماركي: حميد العقابي… الجرأة حين تصاغ في هيئة كاتب

من صفاء ذياب: تمتد تجربة الشاعر والروائي العراقي حميد العقابي لأكثر من أربعين عاماً في الشعر والرواية والسيرة، فهذا الشاعر الذي أصدر أولى مجموعاته الشعرية عام 1986 كان مختلفاً في لغته ورؤاه والموضوعات التي يطرحها، حتى عُدَّ أكثر كاتب صريح مع نفسه قبل أن يكون صريحاً مع الآخرين من خلال سيرته التي دوّنها تحت مسمى «أصغي إلى رمادي».
العقابي الذي أصدر عشرات الكتب، رحل إثر سكتة قلبية وحيداً في بيته في الدنمارك، بعد أن نشر: «أقول احترس أيها الليلك» 1986، و«أقف بين يدي» 1987، «بم التعلل» 1988، «تضاريس الداخل» 1992، «حديقة جورج» 1994، «وحدي سافرت غداً» (بالدنماركية) 1996، «كمائن منتعظة» (ضمن كتاب «خمسة شعراء عراقيين») 1998، «أصغي إلى رمادي» (فصول من سيرة ذاتية) 2002، «ثمة أشياء أخرى» (قصص) 2004، «الفادن، عناء فحسب» (ديوان شعري) 2005، «الضلع» (رواية) 2008، «أقتفي أثري» (رواية) 2009، «القلادة» (رواية) 2016.
وفي روايته «القلادة» التي اختتم بها منجزه الأدبي في حياته، دخل العقابي في موضوعات مثيرة للجدل، كالدين والسياسية، خصوصاً في العراق، وعن هذه الرواية، يتحدث الناقد السوري صالح الرزوق، قائلاً: باختصار كان حميد العقابي في هذه الرواية مهموماً بإعادة تركيب سيرة الإنسان العربي؛ من المهد إلى اللحد، وفي فترة سقوطه وانهياره. لذك هاجم مجتمع الهزيمة وبالطريقة التحليلية نفسها التي استخدها جلال صادق العظم في كتابه «النقد الذاتي بعد الهزيمة». وكان همه منصباً على تصوير نقاط الوهم والضعف تمهيدا لكشف اللعبة السياسية في مجتمعات التخلف.
ويضيف: إنني لا أستطيع أن أفرض على الرواية فكرة لا تريد أن تصرح بها. كما لا يمكنني أن أستبعد جزءا من فضائحية ذهن الكاتب في قراءته لتاريخنا المبكر. فاستعمال رموز تاريخية تساعد على تشخيص الفكرة. والمشكلة هي في خصوصية هذه الرموز. وكونها جزءا لا يتجزأ من عالم التابو… وعلى الأغلب فإن «القلادة» تستعيد سيرة (افتراضية لماخوند) من خلال تبرير فيزيقي لخوارق تتخللها الخرافات في سيرة النبي. كانت شخصية محمد في الرواية تنمو في عالمها الخاص. وتفكر في مشكلة الإنسان مع شرط الحرية المحدودة، والصراع المفروض بين الوعي باللامتناهي والواقع… وكانت كل أطوار حياته موزعة بين معرفة الطبيعة وأسرارها وإنتاج المعرفة وتشكيل الوعي. وهذا أضاف جانباً اجتماعياً لا تجده عند من حولوا التجريد الرسالي إلى أعمال فنية، كما في «النبطي» و«عزازيل» و«آيات شيطانية».
ويبين الرزوق أنه في هذه الرواية تساوت غرائب وأسرار الذات البشرية مع عجائب تطور المجتمع، وعكست صورة التوتر والصراع، الذي يرى جون ماكوري، أنه ضرورة لبلورة الواقع الدينامي.. فهي ميتا خيال. استطرادات ذهنية بناها الكاتب على أرضية أو خلفية لاوعيه الثقافي. ومنذ أول سطر أشار إلى أن الشخصيات لم يسبق لها أن عاشت خارج النص، وتشابه الأسماء مع شخصيات موجودة في الذاكرة له أغراض فنية بحتة.
في حين يتحدث الناقد حسين السكاف عن رواية العقابي «الفئران»، مبيناً أنه في «الوطن الكبير» أو المعتقل أو المختبر، غيَّرَ السجانون أسماء المعتقلين وتحولت أسماؤهم «البشرية» إلى أسماء حيوانات أو ألقاب مهينة: غراب، حمار، ثور، بعير، عتوي، قرد، خنفس، أبو بريص. أما بطل الرواية، فصار اسمه «واوي»، حتى نسي بعض السجناء أسماءهم الحقيقية مع الوقت. بذلك، يؤكد المؤلف عمليات أو محاولات مسخ البشر التي مارستها السلطة على الشعب، لكن إلى أي حد يمكن للبشر تحمّل هذا؟ تُرى، هل هناك من يثور على واقعه طلباً لحريته أو بحثاً عن إنسانيته؟ سؤال يجيبنا عنه أحد شخوص الرواية، لكن بطريقته المنهزمة: «إن كانوا يريدون أن يعرفوا طاقتنا على تحمّل المهانة، فها إنني أمامكم أعلن أنهم قد نجحوا في مسخنا ليس اليوم، بل منذ أكثر من عشرين سنة، وها أنا أعلن لهم بلا خجلٍ.. أنا حمار». هذه العبارة التي تفصح عن انهزام الروح، تحدّد للقارئ بنحو غير مباشر زمن أحداث الرواية؛ إذ يتضح أنّ أحداث الرواية تقع بين عامي 1994 ـ 1995 كما يؤكد المؤلف في عبارة أخرى: «لم يكن الأمر إلقاء القبض على جنود فارين من جبهات القتال، فالحروبُ قد انتهتْ منذ ثلاث سنوات، وقد «انتصر» جيشنا، على الرغم من التنازل للعدو عن عمق أكثر من عشرين كيلومتراً من الأراضي على طول الحدود الدولية»، ما يعني أنّ الرواية تدور بعد ثلاث سنوات من انتهاء حرب تحرير الكويت. وبهذا، يشير المؤلف إلى أصعب فترة مر بها الشعب العراقي، إنها فترة الحصار والجوع وخطف وبيع الأطفال والفتيات أو موتهم. الفترة التي انتزع فيها العوز والإذلال إنسانية وكرامة الإنسان العراقي.
ويرى أن العقابي يمنح أهمية خاصة لشخصياته من أجل تشكيل المكان المحيط بها. المكان الذي يبدأ بصحراء جرداء وتيه واضح ينحسر تدريجياً ليصبح زنزانة ستشكل المسرح الرئيس لأحداث الرواية. زنزانة لا تضم بين جنباتها سياسيين أو معارضين للنظام بالمعنى الحقيقي، بل أناسا مسالمين من شعراء وكتّاب وعلماء وأصحاب مهن حرة، ولم يغب عنها حتى المثليون وكتّاب التقارير والمندسون لمصلحة النظام. إنها صورة شعب كامل صاغها المؤلف بتقنية عالية عن طريق مشاهد وحوارات مختصرة منحت القارئ فرصة جيدة للتأمل.
وحسب السكاف، فمن الواضح أنّ فكرة طرح الواقع الذي كان يعيشه الإنسان العراقي في فترة حكم الديكتاتور بكل مرارته وكوارثه الإنسانية بصيغة أدبية روائية، لم تكن هدف المؤلف الوحيد، بل كادت حتمية الثورة على الواقع المُذلّ أن تكون الفكرة الأساس للرواية. فهذه الرواية التي كتبت قبل ثماني سنوات من صدورها، ودارت على أكثر من دار نشر ماطلت بها، كان ممكناً أن تكون نبوءة لتفجّر ثورات «الربيع العربي» لو أنها نُشرت في وقتها الصحيح، إلا أن صدورها المتأخر أفقدها بعض بريقها. هذا ما يؤكده لنا حميد العقابي قائلاً: «في رواية «الفئران»، حاولت أن أرصد حالة المجتمعات العربية التي جعلتها الأنظمة القمعية فئران تجارب، فكانت النتيجة ما نراه اليوم من قتل وتخلف وانحطاط قيم».
وبعيداً عن الشعر والرواية، فإن تجربة العقابي في كتابة سيرته الذاتية كانت الأكثر إثارة وإرباكاً للقراء، هذه السيرة التي كشف فيها حتى عن أسراره الشخصية، وعن أسرار عائلته في مدينة الكوت.. وعن هذا الكتاب، تشير الكاتبة السورية فرات إسبر إلى أن العقابي في هذه السيرة يدخلنا في مسالك وعرة للإنسان يكشف عوالم نحن في أشد الحاجة إلى كشفها وفضحها. وجوه يلقي عليها الضوء فتجرحنا بعماها، كائنات من أحجار بماضِ يتقدم بلباس الحاضر، كائنات حضرت بلباس حكومات فيعريها وهي تدخل باسم الإسلام، ليكشف عنها بأنها الأكثر عداوة للإنسان والإنسانية، صورة تفضح صورة، تأريخ يفضح حكومات، وحكومات تشوه أديانا وتقزمها… في «صورة الولد الخاسر لحد» يتحدد الزمان والمكان، حيث يتحول الإنسان إلى كائن غريب في الزمان والمكان، في دول تحكمها أنظمة قمعية، ألم يكن لإيران وجه آخر تنهض به باسم الإسلام؟
حميد العقابي في فصول سيرته سرد لنا ما حمله بداخله من إيقاعات وإحباطات، وصداقات أهل ورفاق ومدن وأماكن أرّخ لها وأعطاها توهجا نراه في «الرسام والفراشة»، ففيه استحضار لحلم كامل بزخمه وأصدقائه، يستجوبهم ويستحضرهم راسما صورهم بكل أبعادها وانعكاساتها.. هل يكفي رسم الصورة ليظهر الفنان عارياً، الفنان الخالق المبدع بقدر ما هو محب للمرأة باحثاً عنها، بقدر رغبته في قتلها.
وتبين إسبر أنه من خلال ما نقــــرأ عـــــند العقابي نرى الصدق والوضوح في ما يقصه علينا ويسحبنا في مغارات حياته، يقدم شواهد لمحكمة الحياة في ما إذا عقدت ذات يوم لتدين من تدين ومن أدى بهذا الإنسان إلى خرابه الروحي والوجودي.
وعندما يتحدث نفسه عن كتابه، يقول في أحد الحوارات: كتبتُ كتاب «أصغي إلى رمادي» وهو فصول من السيرة الذاتية، مبكراً حتى أني سمعت أكثر من شخص قال ساخراً (من أنتَ كي تكتب سيرتك الذاتية؟). كنت متوقعاً أن أسمع مثل هذا القول، لأن القارئ العربي اعتاد على قراءة سير القادة السياسيين والعسكريين، فهو يقرأ كتاب السيرة لغاية محددة وهي معرفة سرّ يبوح به هذا القائد أو ذاك السياسي، لذلك لا يضع القارئ في حسبانه أنه يقرأ كتاب السيرة من أجل أن يتمتع بفنية هذا الجنس الأدبي.
أما ما كنت أطمح إليه فهو كتابة سيرة ذاتية لا تتخلى عن الشروط الفنية محاولا رصد الواقع والتجربة بشكل غايته المتعة الفنية بصدق وبراءة. من هنا جاء حذري الشديد من الوقوع في فخ (الأنا) التي لا بد من ظهورها في كتابة السيرة، لذلك كتبت سيرتي مطلاً من نافذتي على ما كنت شاهداً عليه من أحداث وشخصيات، وحتى ما يمكن اعتباره مسألة شخصية كالكتابة عن الأم والأب والعائلة، أنا جعلتها نافذة لتأمل الواقع الذي شكّل هذه العلاقات وارتباطها بحركة المجتمع العراقي في فترات معينة، وربما يستطيع القارئ من خلال هذه الكتابة أن يعرف المؤثرات الخارجية والداخلية ليس لي فقط، بل ربما سيجد هذه المؤثرات في تركيبته هو أيضاً. وهذا ما حصل فعلاً. فقد وصلتني آراء كثيرة حول كتابي تؤكد هذا الأمر، ومن الطريف أن طالبة إيطالية حازت درجة الدكتوراه من جامعة نابولي بأطروحتها عن كتاب «أصغي إلى رمادي» قد كتبت لي بأنها وجدت نفسها في الكثير من تفاصيل الكتاب.
سعيد الجعفر، صديق العقابي في منفاه المجاور (السويد)، يرى أنه كان الأكثر صدقاً وجرأة والأبعد عن الأضواء ونفاق النخبة الثقافية العربية… مع محمد شكري نجده الأكثر جرأة في كتابة الممنوع والمحرم في السيرة الذاتية.. عشنا معا لأشهر في مخيم اللاجئين العراقيين في مدينة كرج غرب طهران عام 1984، وكانت روح النكتة لا تفارقه فهو العاشق لشرب الشاي.. كان يقول (والله لو يشدون الجاي مثل المغذي ونخلص).. استمرت مراسلاتنا متباعدة على مدى ثلاثين عاماً أو ينيف.. أتذكر أنه كان فرحاً بإقبال القراء حين نفدت الطبعة الأولى من «أصغي الى رمادي»..

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى