جماليات الصورة الفنية في بيت السرد التونسي
انعقد “بيت السرد” في جلسته السردية أخيرا بدار الثقافة ببن عروس/تونس، إشراف وتقديم الكاتبة والناقدة التونسية هيام الفرشيشي، وادارة نجوى الملوحي، وتناول موضوع “جماليات الصورة الفنية” من خلال نماذج سردية وشعرية لمبدعين تونسيين، فحضرت رواية “المائت” للطفي الشابي، وحضر ديوان شعر “بقايا نعاس” لنزار الحميدي، كما حضرت كتابات قصصية لجميلة الرقيق، وشهاب بن يوسف، ونجيبة بوغندة، إلى جانب قراءات قصصية لمهدي القاطري واسلام السوايحي، وحضور مواهب شابة.
وقدمت هيام الفرشيشي عرضا عن الصورة الفنية انطلاقا من وجهة نظر أسلوبية وخاصيات الصورة الفنية بشكل عام، وما يتوفر فيها من خيال وخلق ومزج الظاهر بالباطن، ومنابعها المتعددة، وقدرة اللغة ومفرداتها المنتقاة بعناية على تشكيل أبعاد ودلالات الصورة الموحية، والربط بين الاصلي والشبه رغم التحويل وربط علاقات جديدة، والتعبير الرمزي والمجازي، وربط الصورة بحالات صوفية ووجودية واشتغالات اللاوعي الخلاق وقدرتها على سبر الجوانب الغامضة والمجهولة والمدهشة.
وبينت أنها حين تناولت بعض الصور من نماذج سردية أو شعرية فهي غير منفصلة عن صورة العمل الإبداعي الكلية، ولكن بإمكاننا تقييم معيار الجمال انطلاقا من الصور الجزئية أو نسيج الصور داخل النص ككل، وضع الصورة في إطارها وتحديد الزاوية التي التقطت منها.
فالصورة في النص الإبداعي محملة بالألوان والأشكال ترسمها وتشكلها لغة موحية لها قدرة على التأثير على نفس المتلقي، ومن هذا المنطلق ربطت التمثل الذهني بالصورة البصرية وقدرة اللغة على تصوير هموم النفس وإعادة هندسة العالم الداخلي وفتح منافذ ومسالك داخله لحماية النفس من واقع متوتر، الذي تحولت شخصياته الى اشكال مجردة من المعنى، ثم بينت قدرة الصورة على نحت الفكرة عبر تشكيل مشهد كرنفالي وتجسيد الانفعالات الايجابية عبر الحركة والرقص وتناغم الشخوص والشخصيات.
اما في “أشجار التفاح” النص الشعري لنزار الحميدي، فقد ركزت على تشكيل المشهد الداخلي وتشكيل المشهد الخارجي عبر الحد الفاصل، النافذة في طقس شتائي، فحين تغيب الشمس وتغيب الألوان ويغطي البياض المشهد وحين يغيب النور، يشكل الشاعر كما الانسان ضوءه ودفئه / الموقد والوانه عبر ألوان زهرية في ملابسه (امرأة انت ام حديقة، أسأل امي وهي تدخل بملاحفها الزهرية). لتنحل كل الالوان في بياض المشهد الخارجي، في لون زهرات التفاح البيضاء ثم تتلون وتعيد تشكيل اللوحة بألوان متعددة.
ويتجاوز الشاعر البعد التصويري نحو فكرة أعمق وهي تشكل شهوة الحياة عبر رمزية شجرة التفاح ورسم مشهد إيروسي مجازي داخل البيت تتوفر فيه عناصر النار والحس، ولكنه يعبر عن فكرته ضمنيا عبر صورة الشتاء الخالية من الروح والعاطفة والبحث عن التطهر ومنافذ النور الحقيقي، وإعادة تشكيل الخلق من جديد على هيئة إنسانية كونية (نامي أيتها الاشجار الازلية حتى مجيء الربيع لتتصافحي يا جذور وانت تتبادلين هدايا راس السنة الجديدة) لترمز أشجار التفاح الى اشجار أزلية، أشجار الحياة والتجدد.
كما تناولت هيام الفرشيشي صور قصيدة الصباح لنزار الحميدي. وبينت من خلال نماذج صور سردية لشهاب بن يوسف قدرة الخيال على التعبير عن المعنى والفكرة بالصورة، وهي أعمق من الإدراك الحسي بل تصور الواقع النفسي والبعد الذهني تحت تأثير الظل والعتمة والضوء الخافت وومضات البروق، لتتحول الصور الى إحالات لمعان رمزية. وكانت اللغة أداته الطيعة في تعقب ما هو باطني وغائب، وهي تتلبس بالرؤيا في حالات خاصة وتتميز بالكثافة الروحية.
وبينت الفرشيشي كيف تغوص الصورة الى اللاوعي في الأماكن المعتمة والانتقال من الواقع المرئي الى اخر تصنعه النفس على شكل خيالات وتهيؤات واحلام وكوابيس، فالمبدع يغمس الصورة في خياله ويشكل صورا متخيلة، وتوظيف الصورة داخل النص العاكس للظلال الداكنة التي حجبت صور الذاكرة. كما يوظف ضوء الطبيعة لتشكيل صور مضيئة بأشكال أخرى وقدرته على التشبيه والتحويل والتعديل للصور البصرية الحسية، إضافة الى ترتيب شهاب بن يوسف لصوره لتصوير الغربة الروحية.
ومن خلال نماذج قصصية لجميلة الرقيق مثل “عاملة المحطة”، فقد تناولت هيام الفرشيشي الصورة السردية في تصوير هموم الانسان أمام المرآة لتعكس انكسار الحلم على سطح الواقع، وتتحول الصور النفسية والاجتماعية الى رسائل تأثيرية ومطية لطرح الأسئلة وتناول البعد اللانساني في الواقع.
وبينت قدرة الصور على الاقتراب كثيرا من تفاصيل الواقع والشخصيات وتصوير أمانيهم ورغباتهم وأحلامهم الحميمية. وينعكس من خلالها البعد الدرامي في بيئة مؤلمة خطرة لامبالية.
ومن خلال نماذج أخرى لجميلة الرقيق بينت الفرشيشي كيف تشكل الصورة اول كل نص أساس الحدث وتركيز الشخصيات وتصوير الموضوع والبيئة واختلاف الرؤى والهموم المتباينة، ثم لاحظت ان جميلة الرقيق في نصوصها الجديدة الاكثر اختصارا لم تعد تشكل صورها أمام المرآة بوضوح بل من خلال حالة بين الوعي واللاوعي مشحونة بالرموز تقوم صورها على التناص والنفاذ الى صور دينية وأسئلة فلسفية وجودية، فجاءت متسمة بالغرابة والدهشة، وهي تنقل هموم الانسان من الواقع نهارا الى حالات النوم ليلا لتعيد التشكل رمزيا.
وحضرت نماذج قصصية من نصوص نجيبة بوغندة ايضا، الموشاة بالمشاهد الشعرية الباحثة عن خيوط سردية، وقدرة الصور على تشكيل عوالم التكامل بين الانسان والطبيعة والكون، وتصوير التنافذ بين السماوي والارضي، اما الالوان في النص فهي لا تشير الى دلالتها الحقيقية المتعارف عليها، واللغة ثرية بالاستعارة والتشبيه والرمز والتصوير العكسي للصور المالوفة والمفارقة، فهي تحقن الصور الخارجية انطلاقا من إحساس الراوي.
وتميزت الجلسة بالنقاش والنقد واثراء القراءات النقدية بآراء فيها الكثير من الانتباه والتيقظ من طرف الضيوف، فداخل كل مبدع يكبر الناقد ويمتلك أدوات جديدة يطور بها بناء نصوصه، وداخل كل مبدع تكبر الافكار وتتوالد وتصبح اللغة أكثر سلاسة وخلقا، أما الخيال فتكمن قدرته على التحويل وتشكيل علاقات جديدة لتفاصيل الصور، ويبدو ان التعبير بالصورة أصبح مشغل المبدعين لتجاوز النص التقريري المباشر وذلك ما انعكس من ملاحظات على النصوص التي قرأها رواد بيت السرد مهدي القاطري واسلام السوايحي، فقد وقع الاشادة بفلذات الصور التي نفذت الى النصوص مع الدعوة الى نفاذها داخل كامل العمل ومواصلة رحلة الخيال والتشكيل وتعميق الحدث بتعميق الفكرة.
(ميدل ايست اونلاين)