التخييل الروائي في «الرحلة الهنتاتية» للتونسي عبد القادر اللطيفي

بوشعيب الساوري

تبقى الرواية هي الفن الأدبي القادر على الجمع بين المعرفة والمتعة والتفكير في الحياة والذات الإنسانية في كل أبعادها. كما أن الرواية هي الجنس الأدبي الذي يستطيع استعادة الماضي كتجربة إنسانية بصراعاته ونعراته وإشكالاته في إطار تخييلي، محاولا منح التاريخ طابعا روائيا وإنسانيا، ويزيل القداسة عن شخصياته عبر تذويتها والتقاط إنسانيتها وجعل القارئ يراها تعيش مرة أخرى.
تنطلق رواية الرحلة الهنتاتية للكاتب التونسي عبد القادر اللطيفي من تقليد روائي يتمثل في حصول السارد على مخطوط لكاتب مجهول في التاريخ، ولم يُسمع به، يتعلق الأمر، حسب السارد برحلة ابن الزمكي قام بها رجل من أهل إفريقية (تونس) إلى جزر الركرك في المحيط الأطلسي، وأن المؤرخين لم يذكروها. وهي طريقة تخييلية تنبّه القارئ إلى أنه سيدخل إلى عالم مفعم بالمفاجآت. يتعلق الأمر بتقنية تحاول شدّ اهتمام القارئ، وهي كمعادل للتقنية الشفوية «كان يا ما كان». وينشطر متخيل رواية الرحلة الهنتاتية إلى شطرين:
الأول؛ يتتبع مسار رحلة ابن الزمكي في القرن الخامس الهجري وسياقها وظروفها وأخطارها ومفاجآتها، نجاحها وفشلها، وقد احتل الحيز الأكبر من الرواية، وكُتب بلغة تراثية وبخط كبير الحجم ومشكول، على اعتبار أنه مخطوط. والثاني؛ يحاول تحقيق الرحلة والتعليق عليها وقد احتل الهوامش، بشكل قليل جدا، وبخط صغير وبلغة تبدو قريبة من العلمية بحسّ تحليلي وهو مرتبط بالحاضر حاضر السارد وتفاعله مع المخطوط الذي حصل عليه.
ما سنركز عليه في هذا التحليل هو الشطر الأول من الرواية، المتعلق بالمتن الرحلي، منطلقين من أن الكتابة الروائية هنا تروم إضفاء طابع روائي على الرحلة، على الرغم من حرص صاحبها في كتابتها بلغة تراثية، وعلى الرغم من حضور كل مقومات وآليات الكتابة الرحلية (السفر، دوافعه، مساره، الذهاب والعودة) لكن مع تسجيل حضور قوي للذات الراحلة في كل حالاتها وما يعتمل في دواخلها من مشاعر إنسانية متباينة، بحسب المواقف التي عرضت لها وهو ما يجعلها تقترب من رحلة المغامرة ومفاجآتها.
ويمكننا أن نرصد مجموعة من المقومات الفارقة التي جعلت هذه الرحلة تتخذ طابعا روائيا، من خلال قدرتها على نقد الواقع وفضحه، وباعتبارها بحثا عن قيم أصيلة في عالم منحط، على حد تعبير جورج لوكاش، وهي:
1 – الحس النقدي: لقد أوكل الروائي للسارد البطل ابن الزمكي مهمة نقد كل ما يجري حوله بعين فاحصة وفكر تحليلي، فلم يكن مجرد ناقل للمشاهدات والأحداث والمغامرات. وإنما كان يحرص دائما على فهمها والتعليق عليها بحس نقدي، مثل موقفه من ظاهرتي العبودية وإتيان الغلمان بعيدا عن الافتعال والابتذال؛ إذ لم يكف ابن الزمكي عن نقْد كل أشكال الصراع والقتل والفتن بين طوائف المسلمين بدافع عقدي كقتل المتصوفة، ونقد الفكر التكفيري التخويني، ونقد الولاء لطرف سياسي أو آخر تبعا لأطماع سياسة (كعلاقة أمير قابس بالدولة الفاطمية والدولة العباسية) يهدف كل ذلك إلى الكشف عن الحقائق الملتبسة في طوايا التاريخ/ فينهض السرد بمهمة كشفها وتفكيكها.
2- النسبية وغياب اليقين: من خلال المحكيات التي يتم إدراجها في الرحلة؛ كرواية أبي الدعداع ورواية النخاس/ وهو ما يجعلها تتخذ طابعا روائيا، إذ يُسائل السارد المحكيات الخرافية وتأثيرها في أفكار ومواقف وأفعال الناس، ويحاول أن ينزع عنها طابعها الخارق من خلال نهاياتها المأساوية والمخيبة للآمال، إذ انتهى أغلب أبطال هذه المحكيات إلى القتل، كما أدت هذه المحكيات إلى خلق تعدد حكائي في الرواية، منح الرحلة بعدا نسبيا.
3 – غرابة الدافع إلى الرحلة: كان الدافع الباعث على هذه الرحلة هو إتيان بعض النخاسين بجارية فاتنة الجمال، قال إنها من «جزر الركرك»، فكان الهدف من الرحلة هو التحقق من دعوى النخاس. ويبدو هذا الباعث غريبا مقارنة مع الدوافع المعروفة في الكتابات الرحلية العربية، وأيضا هو غريب عن التكليفات التي كان يوكلها الساسة لمبعوثيهم الدبلوماسيين، ليؤكد انجذاب الرحلة إلى التخييل الروائي، إذ كان جمال نساء الجزيرة هو دافع كل الذين التحقوا بركب الرحلة، بمختلف مشاربهم العقدية والطائفية، سواء بشكل معلن أو مسكوت عنه، كما أنه يحاول أن يجعل الرحلة إلى بلاد الركرك بعثة سلم وليست فتحا أو غزوا. وتعكس أيضا بعثة الرحلة الصراع والتوتر بين الدعوة إلى الجهاد والدعوة إلى الاستطلاع، والمسكوت عنه في هذه الرحلة هو أن الرحلة الاستطلاعية الاستكشافية البعيدة عن منطق الغزو كانت مغيبة في الثقافة العربية الإسلامية، فكان منطق الغزو المغلّف بالعقيدة هو الموجه لفعل الرحلة من هذا النوع في الثقافة العربية الإسلامية الوسيطة.
4- الطابع الإشكالي: تعالج الرواية من داخل الرحلة الكثير من الصعوبات والإشكالات الدينية والعقدية التي كان يشهدها العالم العربي وما كان ينتج عنها من انقسامات وصراعات بين الفقهاء والمتصوفة، بين السنة والشيعة بين السياسي والديني، وكيف تقود تلك الصراعات إلى الإقصاء والتهميش والتحولات المفاجئة، لتسلط الرواية الضوء على الفتن الدينية التي كان يشهدها العالم العربي، دون أن تغفل مناقشة الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحاضنة لها.
ويظهر الطابع الإشكالي الأساسي في الرواية في أن الفتن والصراعات السياسية والمذهبية والموقف من الآخر وطريقة التعامل معه (النبذ والإقصاء) تحول دون تحقق حلم الانطلاق نحو المستقبل، وتعيدنا دوما إلى الوراء وتفرض علينا البداية دوما من الصفر والدوران في حلقة مفرغة. لتشخص الرواية الصراع بين الحلم والواقع، وتبرز كيف ينكسر الحلم أمام سطوة الواقع وإكراهاته، بسبب ما يعتمل في هذا الأخير من صراعات تتجاوز غالبا الذات وآمالها.
لتتخذ الرواية من الرحلة، باعتبارها استعادة تخييلية لفترة من تاريخ شمال إفريقيا (القرن الهجري الخامس)، أداة للحلم الذي لم يتحقق في الماضي والتساؤل ضمنيا عن الأسباب التي تحول دون تحققه في زمننا الحاضر. انطلاقا من تصور خفي موجّه، هو أن الواقع العربي المثقل بالتفتت والصراعات والفتن لا يمكن أن يكون أرضا للحلم، كما أن الرواية تنهض على سؤال آخر وهو: لماذا لم يتجه العرب إلى ما وراء المحيط الأطلسي؟
5- البعد الذاتي: وانسجاما مع الروح النقدية المميزة للجنس الروائي، تحاول الرواية إضفاء البعد الذاتي الواقعي على أحداث الرحلة، انطلاقا من فكرة تكسير صورة البطل الذي لا يقهر التي كانت سائدة في السير الشعبية بشكل خاص. وذلك عبر تجريد الشخصيات من طابعها الخارق، والابقاء على إنسانيتها ومحدوديتها، كابن الزمكي الذي ظهر في الرحلة كإنسان عادي في كل أبعاده، من قوة وضعف وشدة ولين، سواء على المستوى النفسي أو الجسدي، إذ أنه خضع لسيدة أمازيغية حين تعرّض للأسر في بلاد تامسنا، وتحوّل إلى راع. كما أنه لم يتمكن من الوصول إلى الجزيرة الحلم وعاد إلى قابس خائبا. هكذا يتبين لنا أن فعل التخييل الروائي في الرحلة الهنتاتية ينهض على جعل الرحلة تتخذ طابعا روائيا من خلال ما رصدناه من السمات وهي: الحس النقدي، النسبية وغياب اليقين، غرابة الدافع إلى الرحلة، الطابع الإشكالي، والبعد الذاتي، كل ذلك في إطار ثنائية مركزية ناظمة وهي جدل الحلــم والواقع المؤسسة للجنس الروائي.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى