المزادات الفنية… وهم أم حقيقة؟

فاروق يوسف

منذ عشر سنوات دأب مزادا كريستيز وسوثبي البريطانيين على اقامة عروض سنوية لمبيعاتهما من الأعمال الفنية العربية والإيرانية في مقريهما في دبي. وهو ما لم يكن مألوفاً من قبل في الحياة الفنية في ما يسميها القائمون على المزادين منطقة الشرق الأوسط. المزادان ليسا حديثي العهد بما صار يسمى السوق الفنية الموازية. سوثبي، تأسس عام 1744 اما كريستيز فقد تأسس عام 1766. وهو ما يعني أن الحديث عن المزادين لابد أن يصل بمراميه إلى مسألة اختراق ممرات سرية امتزج فيها المال بالفن، بما يعزز صفة السلعة النبيلة ويضع الأعمال الفنية في مكان افتراضي باعتبارها نفائس. وهو ما استدعى وقوع تنافس دائم بين مقتني الأعمال الفنية الذين يتوزعون بين فئتين. فئة الشغوفين المأخوذين بسحر القطع الفنية وهم عشاق غامضون وفئة المستثمرين ممَن قرروا أن يزجوا بالفن عنوة، ولكن بطريقة المحترفين في سوق البورصة وهي الفئة الأكثر عدداً وأشد سطوة.
في الحالين فإن تلك السوق الموازية لا معايير نقدية ثابتة لها وإن جرت بها التوقعات مجرى الأوهام التي تشبه الحقيقة. فما من شيء مؤكد فيها إلا في ما يتعلق بأعمال الفنانين المتحفيين، وهي أعمال صارت نادراً ما تُعرض علنًا للبيع. تباع تلك الأعمال من طريق مفاوضات سرية معقدة وصعبة، يخضع الشاري من خلالها لعمليات ابتزاز مختلفة.
وليست الأرباح الهائلة التي تحققها مزادات الفن إلا دليلاً على الكفاءة في تسويق الأوهام تشجيعاً على قيام المنافسة بين المقتنيين الذين غالبًا ما تحرص المزادات على إخفاء هوياتهم بحجة الخوف على أمنهم الشخصي. فالسوق الفنية الموازية التي أقامتها تلك المزادات تعتمد بالدرجة الأساس على التحريض على المنافسة بغية صنع مزاج ملائم لتخطي الأسعار الأولية التي يحددها خبراء تلك المزادات. لذلك تحرص المزادات على أن تؤثث فضاءها بالإشاعات التي يتولى عدد غير محدود من الصحافيين اشاعتها وبالأخص في ما يتعلق بالأعمال الفنية التي تعود لفنانين لا تزال قيمتهم الفنية موضع جدل ونقاش. وهو ما يجري تماماً في دبي. لقد بيعت أعمال عدد من الفنانين العرب من خلال مزادي كريستيز وسوثبي في دبي بأسعار مذهلة، فهل علينا أن نصدق أن تلك الأسعار يمكن أن تنتقل إلى السوق الفنية الواقعية لتكون قاعدة للتعامل مع أعمال أولئك الفنانين، الأحياء منهم بالأخص؟
يمكنني أن أؤكد هنا عن معرفة أن الثري الذي يخضع لإغراءات كريستيز ويشتري عملاً لفنان عربي حيّ بـ (200) ألف دولار لا يقبل أن يشتري عملاً للفنان نفسه من غاليري خاص أو من الفنان مباشرة بـ (50) ألفاً. هل فضاء المزاد يملك من الجاذبية أكثر مما تملكه القاعات الفنية؟
في المزادات يجب أن ننتبه إلى بعض ألاعيب مضللة. فمزادا كريستيز وسوثبي في دبي يبيعان بضاعتنا إلينا. وإن قاما على سبيل الافتراض بتسويق تلك البضاعة في مدينة غير دبي لما نالت أي اهتمام يُذكر ولأُهملت حتى من القيمين على المزاد، وهو ما حدث ذات مرة بباريس. الغريب في الأمر أن يدخل مزاد بريطاني وسيطاً بين فنان عربي و «زبون» عربي، وقد يكون المشتري والفنان من جنسية واحدة. على سبيل المثل يكون المشتري والفنان سعوديين أو إماراتيين. وهو ما تكرر في غير مناسبة. ما معنى ذلك؟
لقد صنعت المزادات بيئة، لم يعد العمل الفني يُشترى فيها لما ينطوي عليه من قيمة جمالية حقيقة، بل لما أكتسبه من قيمة مضافة بسبب عرضه في المزاد. سيُقال دائماً «لولا أهمية ذلك العمل لما أقدمت إدارة المزاد على الترويج له»، وهو كلام مرسل لا سند له في الواقع، يُراد منه إضفاء نوع من الضمانات الصلبة لعملية تجارية لا غرض منها سوى الحصول على الأموال.
أخطر ما في لعبة المزادات أنها أحلت أوهام السوق الموازية محل حقائق السوق الواقعية. وهو ما أدى إلى أن يفقد الكثير من الفنانين توازنهم من خلال جريهم وراء أسعار ليست مقبولة لأعمالهم. وبسبب دخول المزادات طرفاً في السوق الفنية تخلخلت علاقة المقتني بالفنان، وهو ما سعت إليه المزادات من أجل تثبيت أقدامها وتكريس وجودها عنصراً يثق به الإثنان من غير أن يثق أحدهما بالآخر.
وقع الإثنان ضحية لعبة كانت في ما مضى خفية، وضعت المزادات أصولها لتكسب أموالاً هائلة من الفراغ. وهو الفراغ الذي وقع بسبب عدم وجود سوق فنية ذات ملامح واضحة في العالم العربي.
أعرف أنه لن يروق أحداً أن نقول إن المزادات التي صارت موضع ثقة بالنسبة الى الفنانين، ومن ورائهم أصحاب القاعات، لا تسوق الأوهام فحسب، بل صارت عائقاً دون قيام سوق فنية حقيقية، يتعرف من خلالها الفنانون على حقيقة وقع ما أنجزوه من خلال إقبال المتلقين على أعمالهم.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى