أبطال ضياء حيدر رحمن بهويات منفصمة
أنطوان جوكي
«يمكن انتقاد الطموح المفرَط في ميادين عدّة إلا في الأدب. لا يمكن الأدب أن يحيا إلا إذا حدّدنا له أهدافاً صعبة المنال، كي لا نقول يتعذّر بلوغها. على الشعراء والكتّاب الانخراط في مشاريع لا أحد غيرهم قادر على تخيّلها، إن أردنا أن يستمرّ الأدب في أداء وظيفته. منذ أن بدأ العلم بالارتياب من التفسيرات الشاملة، وقع على عاتق الأدب مواجهة تحدٍ كبير، التعلم كيفية نسج المعارف المختلفة سوية من أجل بلورة رؤية متعددة ومعقّدة للعالم».
هذا هو البرنامج الذي حدّده إيتالو كالفينو للأدب في «دروس أميركية»، وهذا أيضاً ما تطمح إليه الرواية الأولى للكاتب البنغلادشي ضياء حيدر رحمن، «على ضوء ما نعرفه»، التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار «كريستيان بورجوا» الباريسية. رواية يمكن وصفها بـ «الكلاسيكية»، كما فعل بعض النقّاد، لولا أن نصّها المذهل في غناه لا يتجاوز هذا التوصيف ولا يقاوم جميع محاولات تصنيفه.
الراوي في هذا العمل الضخم (514 صفحة) هو رجل إنكليزي من أصول باكستانية استقرّ مع والديه الثريّين في بريطانيا بعد ولادته في أميركا. منذ مطلع الرواية، يقدّم نفسه كشخص من «محيطٍ ميسور» ويتحدّث من دون عقدة عن نجاحه المهني في القطاع المالي. ولكن بسرعة يتبيّن لنا أنه ليس الشخصية الرئيسة في الرواية، بل صديقه ظفر، الذي تعرّف إليه في جامعة أوكسفورد قبل زمن الرواية التي تقع أحداثها في بداية الأزمة المالية عام 2008.
وُلد ظفر في بنغلادش داخل عائلة مسلمة فقيرة وقروية، ومثل والدَيّ الراوي، هاجر والداه إلى بريطانيا وهو صغير، إنما في ظروف اجتماعية واقتصادية مختلفة. عصامي، استطاع الدخول إلى جامعة أوكسفورد بفضل ذكائه وثقافته الواسعة، خصوصاً في ميدان الرياضيات. وبعدما أنجز تخصّصه في هذا الميدان، عمل لسنوات في القطاع المصرفي، مثل صديقه، قبل أن يأخذ مسار كلّ منهما وجهة مختلفة فتتوقف علاقتهما. وفي أحد الأيام، يظهر ظفر فجأة على باب منزل الراوي، فيستقبله وينطلق في سرد قصته، ولكن ليس من دون التدخّل فيها، تارةً كشخص عرف ظفر عن قرب خلال مرحلة زمنية طويلة نسبياً، وتارةً كمعلِّق على سلوك هذا الصديق وأحداث حياته.
هكذا نتعرّف إلى قصة الحب بين ظفر والبورجوازية الإنكليزية إيميلي، التي تنكشف فصولها تدريجاً على خلفية أحداث سياسية وعسكرية دولية، وإلى مشاكل الراوي مع زوجته مينا، التي تتراءى لنا على خلفية الأزمة المالية المذكورة، علماً بأن المحرّك الحقيقي والخفي لعملية السرد يقع في مكانٍ آخر، ويحدده الراوي بنفسه على النحو الآتي: «لا تبرر مشروعي السردي رغبةٌ في البحث البيوغرافي، بل حاجة إلى الإمساك بذلك الرابط الخاص والحميم بين شخصين، ومحاصرة الحقل الذي تركت حياة ظفر فيه تأثيرها على حياتي. وبالتالي، ما يهمّني الآن هو، بكل أنانية، حقل أناي بالذات». وفي ذلك استحضار لمسعى الكاتب الفرنسي مونتنيه. ومن عرضنا السريع للقصة المسرودة فيها، قد تبدو الرواية عادية إلى حدٍّ ما، ولكن ما يمنحها طابعاً فريداً هو تنوّع الأشكال الكتابية وتشابُك الأنواع الأدبية داخلها، وقيمة الاستطرادات والموضوعات والأطروحات وتعدد زوايا النظر، من دون أن ننسى ذلك الذهاب والإياب بين حميمية مقتحَمة وبلورة نقدٍ حاد وثاقب، بخيطٍ أحمر داخل الحبكة، لعولمة الاقتصاد ونتائجها المأسوية، ولعجرفة الطبقات الاجتماعية الثرية وخفّة ما يدور من أحاديث في صالوناتها، ولسياسات الغرب في أفغانستان وباكستان وبنغلادش.
وفعلاً، لجأ رحمن في تشييد نصّه إلى أساليب ومناورات وأنواع كتابية لا تحصى، نذكر منها السرد الخاص بالسيرة، السرد الروائي، نسخ التسجيلات التي يقوم بها الراوي لما يرويه ظفر له، الوصف، التعليق التطفّلي أو ذلك الذي يحضر بين قوسين، الحوار المباشر، الخطاب المنقول، المونولوغ الداخلي، الاستبطان، العرض العلمي، الاقتباس من قصائد، التأمل الفلسفي، التحليل السيكولوجي، البرهنة الرياضية، الملاحظة في أسفل الصفحة، إضافة إلى الجُمَل والمقاطع التوجيهية المقتبسة (épigraphes) التي تتصدر كل فصل من فصول الرواية.
وفي هذا السياق، ووفقاً لموضوع تحاوُر ظفر والراوي، يكتشف القارئ نظرية عدم الاكتمال لعالِم الرياضيات كورت غودِل، تفسيرات مفصّلة وعقلانية للأزمة المالية الأخيرة، جوانب مختلفة من تاريخ تقسيم الهند ومن فصل انفصال بنغلادش عن باكستان عام 1971 وما رافق ذلك من فظائع بحق الشعب البنغلادشي، تأمّلات ظفر في الإسلام السياسي، عرضه المثير لمسألة الوهم البصري، طبيعة العلاقة بين حركتَي القاعدة والطالبان واعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، دور وطريقة تصرّف المنظمات غير الحكومية ومبعوثي الأمم المتحدة في كابول، وجوه الاستعمار الجديد…
قد يتساءل القارئ عن جدوى حضور هذا الكم من المعطيات في رواية، ولكن ما قد يبدو جموحاً استطرادياً غايته إظهار الكاتب ثقافته الواسعة، وبالتالي التفاخُر بالمعرفة، يندرج في الحبكة السردية على طريقة جايمس جويس، أي بشكلٍ سَلِس وطبيعي إلى حدّ يجعلنا نتقبّله ونتأمّل فيه بمتعة فكرية كبيرة.
وفي إسقاطه مناخ الصالونات الديبلوماسية والحفلات البورجوازية، الذي يلجأ فيه إلى لمسات خفيفة إنما دقيقة ضمن حسٍّ تفصيلي يكشف طبيعة الشخصيات التي تنتمي إلى هذا المحيط وسطحية أحاديثها وانحرافات سلوكها، فيستحضر الكاتب إلى أذهاننا روايات سومرسيت موغام. أما وصفه أسفار كلٍّ من ظفر وإيميلي إلى باكستان وأفغانستان وبنغلادش، التي تحصل على خلفية دسائس ديبلوماسية واستخباراتية وعمليات اغتيال وفساد ولقاءات مع شخصيات سياسية وعسكرية معروفة، فيستحضر روايات غراهام غرين.
ولكن أكثر ما يمسّنا في هذه الرواية هو التصوير العميق للضيق المزمن الذي يعاني ظفر منه ويتطوّر مع الوقت إلى حالة فصام ناتجة من ذلك التناقض الممزِّق بين امتنانه لبريطانيا التي استقبلته وهو طفل فقير وجعلته يصل إلى ما وصل إليه، وكرهه لها نظراً إلى مسؤوليتها عمّا جرى في بنغلادش عند نهاية فصل الاستعمار، وإلى متابعة حكوماتها سياسة إمبريالية في جنوب آسيا. فصامٌ تعززه علاقة ظفر الغرامية بالبريطانية إيميلي التي أقل ما يمكن أن يقال فيها إنها علاقة معقّدة لم تجلب له سوى الألم وانعدام الأمان نظراً إلى الريبة المتبادلة بينهما، وأيضاً إلى شخصية إيميلي الباردة والمستقلة والكتومة.
وإلى هذه الحبكة المتعددة الخيوط تضاف القصة الشخصية للراوي الذي يبتعد تدريجاً عن العالم وينفصل عن زوجته ويفقد اهتمامه بمهنته. وبقدر ما يفكك حياته، نراه يغوص في حياة صديقه ساعياً إلى إعادة تشكيلها وفهم محرّكاتها، قبل أن يخلص إلى اعتبار صاحبها كـ «رجل بلا صفات». وفي ذلك استحضار لرواية روبير موزيل الشهيرة.
يبقى أن نشير إلى أن حضور مونتين وجويس وموغام وغرين وموزيل إلى ذهننا لدى قراءة هذه الرواية لا يعني إطلاقاً أن رحمن سعى فيها إلى تقليد أيٍّ من هؤلاء، بل يعكس استيعاباً مذهلاً لأمثولاتهم السردية وتوظيفاً بارعاً لها داخل نصّ لا يدين بروعته إلا لصاحبه.
(الحياة)