التفكير الدلالي في الدرس اللساني العربي الحديث

ابراهيم خليل

على الرغم من أن علم الدلالة علم حديث، نسبيا، إذا قيس بالتاريخ الطويل لعلوم اللغة الأخرى من نحو وبلاغة وعروض وصرف وفقهٍ للغة، وغيرها.. إلا أن له جذوره الممتدة- عميقا- في التراث اللغوي العربي.
وقد عرف الأصوليون، وعلماء الكلام والمنطق، من أمثال سيف الدين الآمدي، وأبي حامد الغزالي والسكاكي، وعبد القاهر الجرجاني والشريف الجرجاني، بهذا الاهتمام لما لدلالات الألفاظ من أثر جلي في استنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة، ولما لتلك الدلالات من أثر أيضا في القول على أعجاز القرآن، وما فيه من سحر البيان.
وفي عصرنا الحديث تزايد الاهتمام بعلم الدلالة كثيرا، فبعد كتاب ميشال بريال (الفرنسي) الموسوم بـ Semantique وترجمته للإنكليزية عام 1900 وما تلاه من دراساتٍ عُرفت بها حلقة براغ، وعالم اللسان الأمريكي وتني، مؤلف كتاب « نمو اللغة وتطورها « وما شاع لدى بعض الأنثروبولوجيين في أكاديميات مختلفة في ليبزغ وبرلين وجنيف وباريس ولندن، اتسع نطاق البحث في دلالات الألفاظ ، وعلاقة المدلولات بكل من المتكلم والسامع. وقد برز من بين الاتجاهات اللسانية الحديثة اتجاه جديد في لندن على يدي جون روبرت فيرث وتلاميذه، يولي قضية الدلالة أولوياته القصوى.
ومن حسن الحظ أن بعض المبعوثين درسوا وتتلمذوا في لندن على يديه، وتأثروا بآرائه، وأسهموا بعد عودتهم إلى ديارهم، في مصر وغيرها، في تطوير التفكير الدلالي في الدرس اللساني العربي. وفي مقدمة هؤلاء إبراهيم أنيس، ومحمود السعران، وكمال بشر، وعبد الرحمن أيوب، وعلي عبد الواحد وافي، وتمام حسان.
ونظرا لقوة الدور الذي نهضوا به في هذا السياق، عكف الباحث اللغوي خالد هويدي (من العراق) على تتبع ما كتبوه، والنظر فيما صنفوه، من دراساتٍ وبحوث منشورة، حاولوا فيها إعادة النظر في علم الدلالة العربي، وسلكوا في ذلك طريقتين، أولاهما: الكشف عما في التراث اللساني العربي من جذور تستبان منها ريادة العرب لعلم الدلالة الحديث. والطريقة الأخرى النهوض بهذا العلم عن طريق التوفيق بين آراء اللغويين العرب المتقدمين، ومنجزات علم اللسان الحديث.

التفكير اللساني

وقد جاءت مساهمات هؤلاء اللغويين فيما يرى خالد هويدي في كتابه القيم «التفكير الدلالي في الدرس اللساني العربي الحديث» مساهماتٍ متفاوتة. ففي كتاب «علم اللغة» لعلي عبد الواحد وافي يضفي المؤلف على علم الدلالة مفهوما واسعا شاملا لمستويات لغوية عدة، أصبحت اليوم مستويات مستقلة. ويعزو المؤلف ذلك لاعتماد عبد الواحد وافي على المنهج التاريخي المقارن. ففي عرضه لموضوع الدلالة في الفصل السادس تتبُعٌ تاريخيٌ لتطور دلالات الألفاظ، وخواص هذا التطور ومظاهره، التي غالبًا ما تكون مقيدة ببيئة معينة، أو حقبة خاصَّة من الزمن. وهذه الآراء – في الواقع – لا تختلف عن آرائه التي ساقها في كتاب له سابق، وهو كتاب «فقه اللغة».
وخلافا لعلي عبد الواحد وافي، يجد المؤلف في كتاب عبد الرحمن أيوب «دراسات نقدية في النحو العربي» ابتعادا ملحوظا عن التفكير الدلالي. وعزا ذلك لهيمنة التفكير النحوي على صاحب الكتاب، الذي غلبت عليه آراء المدرسة الوصفية عند بلومفيلد، وهاريس، على الرغم من أنه درس في لندن، وتتلمذ على يد فيرث. أما الذين عرض لهم من تلاميذه عرضًا دقيقًا فهم: إبراهيم أنيس، ومحمود السعران، وكمال بشر، وأخيرًا تمام حسان. فقد عرف أربعتهم بأنهم مخلصون لآراء فيرث، بدليل أن إبراهيم أنيس هو أول من استعمل في العربية مصطلحي الدلالة المركزية، والدلالة الهامشية، في الحديث عن تعدد دلالات الدال الواحد. أما السعران فقد عرض في أحد فصول كتابه «علم اللغة» للدلالة عرْضًا متأثرًا فيه بأستاذه. ودليل ذلك أنه يؤكدُ، في ما يقتبسه عنه المؤلف من حديث، أن المعنى المعجميّ قاصرٌ – وحده- في الإبانة عن مرامي الكلام، وإنما هو جزءٌ من سلسلة ضوابط تحيط بكل من المتكلم، والسامع، أي: أنّ السياق هو العامل الحاسمُ في إنتاج الدلالة التواصلية، لا المعجم. فللكلمة الواحدة أبعاد نفسية واجتماعية ومعجمية، وموقعُها في السياق هو الذي يقرر ما إذا كان هذا المعنى هو الذي يغلب عليها، أم ذاك. وهذا ما عناه فيرث وتلاميذه في قولهم: إن الكلمة لا معنى لها، وإنما لها استعمال. وهذا الاستعمال هو الذي يُضفي عليها معنىً معيّنا ويستبعدُ غيره.
أما كمال بشر، فقد تطرق للدلالة في واحد من كتبه، وهو القسم الثاني من «دراساتٌ في علم اللغة»، الذي عرض فيه لتباين الآراء في تحديدها لمفهوم (المَعْنى) من حيثُ هوَ مُصطلح. وتتبَّع هذا لدى كل من ستيفن أولمان، وليونارد بلومفيلد، وأخيرًا عند فيرث. منتقدا هذه الآراء انتقادا شديدًا باستثناء رأي الأخير. مما يوحي للمؤلف خالد هويدي أنّ كمال ممن يأخذون بفكرة المعنى المستخرج من السياق، وليس من المعجم.
ويتناول المؤلف آراءَ أحمد مختار عمر، ولاسيما رأيه في تعدد المعنى، ومشكلته، والصحيح أنَّ هؤلاء جميعًا اقتصر إغناؤهم للتفكير الدلالي على تعريف القارئ ببعض ما جدَّ، واستُحدث، من آراء في هذا الموضوع، ولا سيما ما يعرف بالنظرية الإشارية، عند سوسير، والنظرية التصوُّرية لدى كلٍّ منْ بلومفيلد وهاريس. وأخيرًا النظرية السياقية لدى فيرث وتلاميذه. وبذلك تكون الدراسات المنشورة على أيدي هؤلاء دراساتٍ محصورةَ الأفق ضمن فترة زمنيَّة محددة، لا تتجاوز النصف الأول من القرن العشرين. وشذ عن هؤلاء جميعًا تمَّام حسان، الذي جدَّد البحث في علم الدلالة بطريقتين، أولاهما: البحث عن الجذور، أو الأصول، والثانية السعي لمدِّ الجسور بين علم الدلالة العربي والغربي. مؤكدًا أن العلمين يلتقيان في بعض النقاط، ولاسيما في موقفيهما من المقام، أو سياق الحال وفي كتبه «مناهج البحث في اللغة» و»العربية معناها ومبناها» و»اللغة بين المعيارية والوصفية» يقدم لنا وصفا للعربية يمزج فيه بين مناهج التفكير اللساني الغربي، والتراث العربيّ.

الدلالة التوليدية

في الباب الثاني يجد القارئ توجهًا جديدًا في تناول المؤلف للتفكير الدلالي، فقد تطرق لما يعرف بالدلالة التوليدية. والمتوقع من هذا العنوان أن نقرأ شيئا عن تشومسكي الذي تنكب، بادئ ذي بدء، الحديث عن المكون الدلالي في نماذجه التوليدية – التحويلية، فقد استأثرت باهتمامه ثلاثة مكونات لا غير، وهي: التركيبي والتحويلي والصوتي. وقد جاء سداد هذا النقص على أيدي بعض التوليديين، ومنهم: كاتز، وفودور وهما مبتكرا ما يعرف بقواعد الإسقاط التي تمد في رأيَيْهما مستعملي اللغة بأساسيّات التأويل الدلالي المرتبط بالجملة. ومن ذلك قاعدة الملاءَمة، وقيْدُ الانتقاء. ويتتبَّع المؤلف هذا التطور الذي طرأ على النظرية التوليدية ففي عام 1972 صدر لكاتز كتاب بعنوان «النظرية الدلالية»، أوضح فيه أن الدلالة نسقٌ توليدي مستقلٌ عن الأبنية التركيبية- إسمية كانتْ أمْ فعلية- باعتمادها مبادئ ذاتية خاصة. وقد عُرفت هذه النظرية باسم النظرية «التصوُّرية» لأن أصحابها لا يعدون المعنى جزءًا من اللغة، وإنما هي جزءٌ من التفكير الذي يختلط فيه الكلام بالمعرفة الموسوعيَّة.
على أن المؤلف بُعَيد عرضه لهذه التعديلات، التي طرأت على النموذج التوليدي، يكرِّر أن تشومسكي يظل مصرا على أولوية المكون التركيبي في عملية التحليل اللساني. وقد لقي هذا النوع من التفكير اللساني صداهُ لدى عبد القادر الفاسي الفهري، الذي نهض بعبء التعريف بالنحو التوليدي، مع إضافات حاول عبرها التوفيق بين النحو العربي والنحو التوليدي. وإضافات أخرى يحاول فيها التوفيق بين علم الدلالة العربي والتوليدي. وقد غلب على الفهري التأثر بالنظرية الذهنية التي هي مزيجٌ من الدلالة النفسية للألفاظ، والدلالة البيئية – الاجتماعية؛ في حين أن محمد غاليم، مؤلف كتاب «التوليد الدلالي في البلاغة والمعجم» وكتاب «المعنى والتوافق – مبادئ لتأصيل البحث الدلالي العربي» يتبنى النظرية التصوُّرية (أو المفاهيمية ) التي وضَعها أحد التوليديين (جاكندوف)، وتقوم على الترابط الوثيق بين المعنى والتصور، كون اللغة في رأي جاكندوف تمثيلا للفكر.
وعلى هذه الخطى يسير مؤلفُ «التفكير الدلالي» في رصْده لمحاولات مازن الوعر التوفيقَ بين الدلائليَّة لدى العرب، ولدى التوليديِّين.
وقد خرج المؤلف بنتيجة مهمة، وهي أن التوليديين العرب، الذين تأثروا بالمدرسة الأمريكية، نهَضوا بمهمة التعريف بالنظرية التصوُّرية، إلا أن مازن الوعر يختلف عن الفهري، وعن غاليم، بمحاولات تطبيقية يقترح فيها قواعد لسانية عربية ذات نسق غير مطابق تمامًا للنظرية التوليدية التحويلية.
وقد خصَّص المؤلف الفصل الثاني من الباب للسانيات الوظيفية. وفي هذا لا مناصَ لنا من الحديث عن جهود أحمد المتوكل، التي تربو على عشرين كتابًا ذات شجون، وهو لا يريد من هذا الفيض إلا شَجَنا واحدًا وهو ما الذي تضيفه اللسانيات الوظيفية العربية – إذا جاز التعبير- لحقل الدلالة، والدلاليات؟
وقد تبيَّن للمؤلف أن المتوكل لا يفتأ يشير إلى إشكالية المعنى عند اللغويين العرب المتقدمين. مستبعدا ما انزلق إليه بعض المحدثين من مغالطات، وفي مقدمتها: القطيعة مع الماضي، والإسقاط، أي: فرض ما يقوله الغربيون على ما قال به النحويون العرب المتقدمون في غير قليل من التعَسُّف لإثبات التواتر والتوافق، فالتراث اللغوي يمثل منظومة خاصة بالثقافة العربية، ونسقا فكريًا وُضع في مرحلة تاريخية محددة، ولهذا ينبغي لنا أن نتوقَّع ألا يكون هذا النسق مطابقا للنسق الغربي، لذلك يرفض المتوكل المزاعم التي ترى في التراث اللغوي تراثا بنيويًا تارةً، وتوليديا تارةً أخرى، لأن ذلك لو صحّ، لوَجَب أن نستنتج ما هو خطير، وهو أن تراثنا يفتقر للهوية التي تميزه من غيره، وتبعًا لذلك يتوسع المتوكل في تتبع الوظائف التداولية في العربــــية، وهي وظائف لملم بعضها من مصادر متعددة، كمفتاح العلوم للسكاكي 626هـ، ومن هذه الوظائف: البؤرة والمحور والمبتدأ والذيل والمنادى.
وفي جل ما جاء عند المتوكل من مباحث حول الوظائف التداولية والاستلزام الحواري، والتنميط الدلالي، لا يخرج عن أطر التقويم المقارِن بين العربية ولغتين أخريَيْن هما الفرنسية والإنكليزية، فضلا عن الاقتراض، أي: اقتباسُ بعْض مفاهيم أوستن، وسيرل، وسيمون دكّ وغيرهم مما أتاح له أن يمد جسورًا بين التفكير الدلالي العربي القديم ونموذج التفكير الوظيفي الغربي.
وبعد، فقد أفاد الباحث خالد هويدي من مصنفات كثيرة جدا في اللسانيات، واتبع في كتابه مخططا تمخَّض عن بنية متماسكة، سلسة، تؤدي الفصول المتقدمة منها للاحقة، وذلك يفتح للقارئ المتخصص، وغير المتخصص، أفقا موطأ، ودرْبًا معبدًا، يعينانه على الفهم والتلقي، إلى جانب الهوامش الكثيرة المثقلة بالشروح والملاحظات والتحقيقات الدقيقة المفيدة. وهذا لا يحول دون أنْ يؤخذ عليه زعمُه بأنَّ النحو عند بلومفيلد نحوٌ توزيعي، فهذا المصطلح خاصٌّ بهاريس مؤلف كتاب «تحليل الخطاب»، إذ يفهم من زعم المؤلف أن النموذجين لا يختلفان، على الرغم من أن التوزيعية لدى هاريس جاءت ردًا على ما في نموذج (المكونات النحوية المباشرة) لبلومفيلد من مغالطات.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى