أجراس الذاكرة والطفولة في «آبشوران» للإيراني علي درويشيان
عبد العزيز بنار
يستطيع القارئ العربي أن يحتفظ لنفسه وفي ذاكرته بصورة متفردة عن الأدب الفارسي والمحكي منه على وجه الخصوص. هذه الصورة تتعامد بين العديد من الصور والتمثلات التي يحملها القارئ عن آداب أمم أخرى، وليس غريباً أن تكون الترجمة واحدة من أهم الإبداعات التي تجسر الكتابات الجمالية بين المبدعين والجماعات المفسرة (النقاد والقراء).
قد تكون رواية «عيناها» التي ترجمها من الفارسية إلى العربية أحمد موسى مؤشراً لافتا إلى النجاح في نقل المتخيل السياسي والعاطفي والاجتماعي للحياة الفارسية في عهد حكم الشاه.
وقدرة هذا المترجم على تشكيل النص الروائي وبنائه الجمالي تركيباً ولغة وبلاغة وسروداً، محافظاً بذلك على خيط السرد الرشيق والماتع. وها هو أحمد موسى يواصل بصبر ووعي جمالي بإشكالات الترجمة وخبرته باللغة الفارسية مد القارئ بسيول من المحكيات والسرود، التي تقرب القارئ العربي من التجربة القصصية الفارسية، بترجمته للمجموعة القصصية «آبشوران» للكاتب الإيراني علي أشرف درويشيان.
تقدم سرود «آبشوران» (التي تستعيد فردوساً مفقوداً) عالماً قصصياً بإحداثيات إنسانية خاصة، وتأخذك إلى حضن متخيل عامر بالشخصيات والأهواء والأفعال والأشياء التي تتحرك في كرونوتوب الشرنقة والضيق، حيث يصبح الفضاء والزمان متلازمين في الدلالة على دورة الحياة المحفوفة بالفقر والظلم والقمع والجوع والمرض والبكاء والارتشاء والملاحقات والتفتيش والسجن، بل أحيانا يتعامد الواقعي إلى جانب العجيب وتعتمل في بنية المتخيل الشعبي صور مسطحة لشخصيات مجتمع القصة، كما تمثل لذلك قصة «الكمان»، إذ تبحث شخصيات مجتمع القصة بين الفينة والأخرى عن نافذة تطل منها على الفرح المعطل، جاء على لسان إحدى الشخصيات: «كانت ليلة العيد بالنسبة إليّ حزينة جدا وكئيبة»، وفي أحيان أخرى يستوحي أحداثا سارحة في التواءات الحياة اليومية بانسيابية مفرطة في البوح، تتكشف أبيسية المجتمع وقسوة الأب على الأم والأطفال أمام واقع مرير يحمل وجهين متناقضين، الحضور والغياب، السلطة والضعف: «كان الصمت والظلمة يخيمان على الغرفة، لا وجود لخرجة أبي، ولا لغلظته وفظاظته وشجاره بسبب مصروف اليوم واسطوانته المشروخة».
في هذا السياق الذي يميز أغلب محكيات «آبشوران» يستيقظ القارئ على أجراس الذاكرة والطفولة المنسية لتجعله يتأرجح بين حرارة حكايات تكاد تكون واحدة، وكأن هذه المحكيات القصيرة، الشبيهة باليوميات، تنصب فخاخاً للقارئ لتقنعه أن الواقع يتلفع وجهاً واحداً مكروراً تكتوي فيه الشخصيات بجروح في كل مكان داخل الغرف والمدارس و…. وعبر سرد ذاتي يواجه السارد أو الوجه الخفي للكاتب صخب الأحداث الضاغطة في مسالك الذاكرة فيستنطقها في وعي الشخصيات، عبر حوار متمايز بين جيلين (صغير، كبير، شفيع الضرير، الأب والأم، رجال السلطة).
راهنية هذه النصوص لا تكمن في دورة الحياة التي تنقلها فقط، بل في الوعي الجمالي بالواقع الذي تخلقه القصة القصيرة، كجنس أدبي فرضت مكانته أن يحظى بجائزة نوبل للآداب إسوة بالرواية في الآونة الأخيرة بصيغة المؤنث، هذا الوعي زادت من الكشف عنه الترجمة الذكية والبليغة لأحمد موسى التي ترحل بالقارئ في تجاويف ذاكرة المجتمع الإيراني، في فترة يرسم ملامحها سراد قصص من قبيل : «السفرجلة، أمي العزيزة ما الأمر؟ الكمان، الحمام، المرض، السمكتان والإوزتان….» جمالية تجلي قلقاً وجودياً لإنسان لا يستطيع توفير تكاليف العيش والتطبيب والتمدرس والزواج … لكنه مقابل ذلك يتشبث بتقاليد مترسخة في بنية اللاوعي الإنساني. كل هذه الأحداث دفعت السارد إلى الوعي بعنف الواقع وضرورة التمرد عليه، وربما هذا ما يجعل من هذا العمل القصصي إضافة إلى قائمة الأعمال الأدبية الملتزمة بقضايا عصرها، الأعمال التي حملت أحلام الشباب الإيراني إلى قلب الثورة والتغيير
(القدس العربي)