الأدب.. هل مصيره أن يصبح مجرّد خادم للعلم؟
مصطفى عبدالله
إلى تونس أشد الرحال، اليوم، للمشاركة في أعمال ملتقى مصطفى عزوز لأدب الطفل في دورته الثامنة التي توزع في رحابها جوائز مسابقة أدب الخيال العلمي التي ينظمها سنويُا “منتدى أدب الطفل” بالتعاون مع البنك العربي لتونس.
وتذكر سعاد عفاس رئيسة المنتدى ومؤسسة هذه الجائزة أن هذه الدورة تخصص لللقصة الموجهة إلى الناشئة: من 12 إلى 16 سنة.
ومن حق المترشح أن يتناول شتى المجالات في الفن القصصي بما في ذلك مجال أدب الخيال العلمي، ويجب أن يتراوح طول النص المقدّم لنيل الجائزة بين: 40 و80 صفحة بالنسبة للمشاركين من الكتاب والأدباء، أما بالنسبة للمشاركين من الناشئة فيتراوح عدد صفحات عمل كل منهم بين: 10، 30 صفحة. وينبغي أن يكون النص: محررًا بلغة عربية فصحى مع الشكل التام أو الجزئي، ويكون النص منسوبًا إلى شخص واحد ومبتكرًا وليس مقتبسًا ولا مترجمًا، وتتكفل هيئة الجائزة بطبع الأعمال الفائزة وتحتفظ بحقوق الطبعة الأولى.
وتحددت القيمة المالية للجائزة على النحو التالي:الجائزة الأولى: 8000 دينار تونسي، الجائزة الثانية: 5000 دينار تونسي، الجائزة الثالثة: 3000 دينار تونسي، وتخصص ثلاث جوائز تشجيعية للفائزين من الشباب والأطفال بقيمة 500 دينار تونسي لكل فائز.
ويذكر الروائي والناقد التونسي الدكتور محمد آيت ميهوب، رئيس لجنة تحكيم هذه الجائزة أنه تم اختيار أدب الخيال العلمي موضوعًا لهذه الدورة الثامنة لأنه من المجالات الأساسيّة التي اقتحمها أدب الطفل عامّة والموجّه منه إلى اليافعين تخصيصًا. فرغم أنّ قارئ هذا الأدب لا ينحصر في الطفل وحده دون الكهل بل لعل الروّاد الأول من أمثال فيرن وويلز قد انطلقوا يبحثون عن الكهل في المقام الأول، فإنّ التطوّر الهائل الذي شهده هذا الجنس من الكتابة الأدبية السردية في القرن العشرين، وتزامن ذلك مع تطوّر أدب الطفل نفسه وما لاقته نصوص الخيال العلمي من قبول لدى الأطفال، ووعي علماء التربية بحاجة الطفل إلى قراءة هذا النوع من الكتابات، كل ذلك جعل أدب الخيال العلمي مدارًا رئيسًا من مدارات الكتابة للطفل واليافع، ورهانًا بارزًا من الرهانات التي يعوّل عليها ممارسو هذه الكتابة.
ويضيف ميهوب قائلًا: لا غرو في ذلك، فأدب الخيال العلمي يجتذب الأطفال بسهولة كبيرة. ذلك أنّ ما يحفل به هذا النوع من الكتابات من تدفّق المعلومات العلمية والتكنولوجية، وقدرته الفائقة على الإثارة العقلية والإبهار المعرفي، وتميّزه بالحبكة المحكمة والتحليق في أجواء الخيال، تؤلف جميعها عوامل تفسر التأثير السحري الذي تحدثه قصص الخيال العلمي في نفس قارئها الطفل. ويرى كثير من المختصين أنّ الخيال العلمي يحقق عدة ملكات مهمة في مسار نمو الطفل عقليًا وعاطفيًا وتفاعلًا مع المحيط.
لذلك أضحى أدب الخيال العلمي اليوم مجالًا معرفيًا لا غنى عنه من مجالات معرفة المستقبل المهمة، وأحد المداخل الرئيسة والحديثة لتنمية الإبداع وإعداد العلماء بالدول المتقدمة. فقد أدركت هذه الدول قيمة الخيال العلمي في تنشئة علماء المستقبل، فقامت بتأسيس مراكز لدراسة الخيال، وبعثت أقسامًا دراسية في الجامعات متخصصة في “أدب الخيال العلمي”، كما أدرجت الخيال العلمي في المناهج التعليميّة.
ويستشهد ميهوب بالعالم المصري الراحل الدكتور أحمد زويل – الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1999 – وهو يمتدح الاعتناء بالخيال في المؤسسات العلمية والجامعية الأميركية عندما يقول: “الجميل في أميركا، وهو ما جعلها تتقدم على العالم علميًا، أن الخيال لا يقتل وليست له حدود، وكل المؤسسات تشجعه، والعالِم الحقيقي المحب لعلمه لا بد أن يحلم، وإذا لم يتخيل العالم ويحلم فسيفعل ما فعله السابقون ولن يضيف شيئًا”.
ويعلق بقوله: لا شكّ في أنّ قولة “زويل” هذه تذكّرنا، إلى حد كبير، بما قاله أينشتاين قبله بعقود من الزمن: “إنّ الخيال أهم من المعرفة، فالمعرفة محدودة بما نعرفه الآن ونفهمه، بينما الخيال يحتوي العالم كله وكلّ ما سيتم معرفته أو فهمه إلى الأبد”.
بيد أنّ كل ما أسلفنا ذكره لا يعني أنّ أدب الخيال العلمي سواء ما كان موجها منه للأطفال أو الكهول قد استوى بعد جنسًا أدبيًا واضح المعالم مستقرّ المصطلح والمفهوم، لا تحول دون دراسته عقبات. بل على العكس تمامًا، إنّ إشكالات كثيرة ما زالت تحوم حول هذا الضرب من الكتابة، وإنّ عوائق كأداء لم تبرح طريق الساعي إلى دراسته دراسة موضوعية وافية.
أوّل هذه العوائق ما يتعلّق بالمصطلح نفسه؛ فرغم مرور قرن ونصف تقريبًا على بروز تيّار أدب الخيال العلمي في الأدب الغربي، إلا أنّ المصطلح المعبّر عنه لم يستقرّ بعد وما زلنا نجد مصطلحات متعددة ومتباينة أحيانًا أشدّ التباين تُقدَّم تسمية له، تفترق بين ما هو جزئي جدًا وما هو شديد التعميم، بين ما يركز على الخيال دون العلم، وما يهوّن من شأن الخيال ويشدّ هذا الأدب إلى رسن العلم وحده.
ولذلك أتت التعريفات المقترحة له مختلفة متعدّدة، تجعل أمر الإحاطة بتعريف جامع شامل لأدب الخيال العلمي أمرًا هو أشبه بالسراب الخلّب. ولعلّ ما يفسر ذلك أنّ أدب الخيال العلمي أجناس فرعية وضروب وأصناف كثيرة قد تجلّ عن الحصر. فتحت لواءه تنضوي أنماط كثيرة من الكتابات التي تجمع بين العلم والخيال، نذكر منها: رواية الاستباق، وأدب الرحلة في عالم المستقبل، والتآليف التي تأخذ على عاتقها تبسيط المعارف العلميّة، وأدب التوقع والتنبؤ، وأدب التغيير، والأدب الذي يهتم بحال الجنس البشري ومصيره. فهل نقبل بهذه الفروع جميعًا ونعتبرها تنويعًا للجنس الأدبي الأكبر؟ أم نحسم أمرنا ونميّز بين ما ينتمي فعلًا إلى أدب الخيال العلمي وما لا ينتمي إليه؟ وفي هذه الحالة: ما هي المعايير التي يلزمنا اتّباعها للحسم في شأن التصنيف والتبويب؟
يضاف إلى ذلك كله عائق آخر لا يقلّ عسرًا وعنتًا بل لعله أشدّ وأخطر، ويتعلّق في جزء منه بالحدود الفاصلة بين مقوّمي هذا الأدب الأساسيّين: الخيال، من جهة، والعلم، من جهة ثانية، وفي جزء ثانٍ بالمقادير الكميّة والكيفيّة التي يجب أن يحظى بها كلا هذين المقوّمين حتى لا يشتطّ أحدهما ويغبن حقّ الآخر.
فالخيال المجنّح المفارق للمرجع الواقعي هو عماد هذا الجنس من الكتابة: فكيف لمؤلّفه إذن أن يقي نفسه من الانجرار نحو الكتابة العجائبيّة المتقصيّة آثار الغرائب المذهلة؟ والعلم وعوالمه المتسمة بدقائق الحقائق العلميّة وضوابط الفرضيّات النظرية والتجارب المخبريّة هو أساس هذا الأدب: فكيف لمن يتصدّى للكتابة في هذا المجال أن يحذر من السقوط في إنشاء نصوص جافّة لا تزيد على أن تكون ترديدًا لما أثمرته أبحاث العلماء المختصين؟ وهل مصير الأدب أن يكون مجرّد خادم للعلم متمّم لدوره أم يتوجّب، على العكس تمامًا، أن يكون قائدًا له مرشدًا في رحلته الاستكشافية؟
بعبارة أخرى إنّ هذا الجنس من الكتابة يضع أمام ممارسه تحدّيًا كبيرًا رهانه النجاح في المواءمة بين الأدب وخياله، والعلم وموضوعيّته.
وهذا بدوره يجرّنا إلى الحديث عن الخصائص التي يجب أن يتمتّع بها مؤلف أدب الخيال العلمي: فهل هو الأديب أم العالم؟ هل هو الأديب العالم أم العالم الأديب؟ وهل يمكن للأديب أن يكون خالي الذهن والوفاض من كل معرفة علميّة؟ وفي المقابل هل يجوز ألا يكون للمؤلف من أسلحة غير تكوينه العلمي؟
هذه العوائق يغدو تأثيرها مضاعفًا مرات عديدة إن نحن تحدثنا عن أدب الخيال العلمي في الثقافة العربية، وإن نحن رمنا دراسة وضع أدب الخيال العلمي الموجّه اليوم للطفل واليافع العربيّين. ذلك أنّ الحديث عن أدب خيال علمي في الأدب العربي اليوم هو ضرب من المجاز والتمنّي أكثر منه تقريرًا لواقع أدبي قائم في واقع حال الأدب العربي. فالنصوص العربية التي تنتمي إلى هذا الجنس الأدبي وما هو موجّه منها إلى الطفل تحديدا، نصوص شديدة الندرة لا تكاد تتمّ أصابع يدي المرء عدّا، وهي إلى ذلك متباعدة في الزمان تفصل بين الواحد منها والأخر عقود متباعدة، متنائية في الجغرافيا تكاد تمثّل جزرًا معزولة متناثرة على مساحة العالم العربي.
وعلى هذا النحو فالتجارب التي قد تدرج ضمن أدب الخيال العلمي لم تجاوز أن تكون تجارب فردية مارسها أصحابها في فترات محدودة من حياتهم ثم سرعان ما انفضّوا عنها، إمّا لأنها لم تأت في سياق مشروع أدبي متجذّر في حياتهم يرتبط لديهم بخلفية فكرية وتكوين ذاتيّ عميقين، أو لما لاقته أعمالهم من تهميش وإهمال وسوء تلقٍ. وبذلك لم تؤسّس هذه التجارب القليلة يومًا لحركة أدبية وتيار في الكتابة يلفت الأنظار ويؤشّر لوعي حقيقي بأهميّة هذا الأدب وحاجة الوطن العربي مؤلّفًا وقارئًا وناشرًا إليه.
هل يسأل في ذلك الأدباء والناشرون والقراء؟ وهل إليهم توجّه أصابع الاتهام؟
يبدو أنّ المسألة تتجاوز الدائرة الأدبية وتمتدّ، ويا للأسف، إلى الدائرة الحضارية الأكبر والأوسع والأشمل. فممّا لا ريب فيه أنّ كل تقييم لحال أدب الخيال العلميّ عندنا يعيدنا في كل مرة يفتح فيها بابه إلى تقييم حال الإنتاج العلمي لدينا. فنجدنا نسأل أنفسنا ذاك السؤال المؤلم المرير: هل يمكن أن يظهر أدب الخيال العلمي في حضارة لا تنتج المعرفة العلميّة؟ وهل يهتمّ العرب اليوم بتخيّل حياة مستقبليّة لهم غير حياتهم الراهنة حتى يتسنّى لأدب الخيال العلمي أن ينمو ويروج بينهم؟
فالناظر في تاريخ هذا الأدب في الغرب يجد أنّ ظهوره قد ارتبط ارتباطًا وثيقًا بعصر الثورة العلمية بدءًا من النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وازدهر ونما وساد مع جول فيرن وويلز في القرن التاسع عشر، عصر الاختراعات وبداية التطلع إلى غزو الفضاء والتحكّم في الزمن بعد أن ذلّت الأرض ودانت للإنسان الغربي. لذلك لا يمكن التطلّع إلى ازدهار هذا الجنس الأدبي في الأدب العربي إلا متى تأسّست دعائم حركة علميّة قويّة وتفتقت زهرة مشروع علميّ كبير. وممّا لا شكّ فيه أنّ ذلك يتطلّب فترة زمنية معتبرة وعملًا طويل المدى. فيكون ازدهار أدب الخيال العلمي ثمرة من ثمار تطور الحياة العلمية ونشأة جيل كامل على الحلم بالحلول في المستقبل حلولًا علميًّا فاعلًا منتجًا.
بيد أنّ هذا الواقع المتردّي ليس حجّة تبرّر اليأس والانصراف عن السعي الجادّ إلى ترسيخ أقدام أدب الخيال العلمي في الثقافة العربية. بل على النقيض من ذلك نرى أنّ أدب الخيال العلمي فرصة ثمينة لعالمنا العربي، لا بدّ أن تنتهز لا لغرس حب العلم في نفوس الأفراد فحسب، وإنما هو كذلك بوّابة ضروريّة لإعداد الموهوبين والمبدعين في شتى المجالات.
فقد صار اليوم من بديهيّ القول كما يشير إلى ذلك أحمد زويل في قولته المذكورة، أنّ تنمية الخيال العلمي على نحو يجعل دراسة العلوم تصل إلى مرتبة الإبداع، هي أحد أهمّ أهداف التربية العلمية الحديثة، ولا بد لتنمية الخيال العلمي من العمل أوّلًا على توسيع نطاق البعد العلمي والثقافة العلمية في ثقافتنا العربية، وفي الأساليب المتّبعة لتنشئة الطفل العربي.
هذا فضلًا عن أنّ انتشار أدب الخيال العلمي بين الناشئة سيساعد على استعادة حب القراءة لديهم. ولعل الأدب الموجّه إلى الناشئة واليافعين هو أحد الأبواب المهمة لدخول عوالم أدب الخيال العلمي والعمل على تحويله من تجارب فردية معزولة، إلى حركة أدبية كاملة متضافرة العناصر.
وعلى هذا النحو يتغذّى أدب الخيال من العلم وقضاياه واكتشافاته، ولكنه في المقابل يسهم مساهمة لا غنى عنها في تكوين أجيال عربية جديدة ديدنها التعلق بالعلم والمعرفة، وفي إذكاء نار حب المعرفة عندها وتربيتها على الإيمان بأنّ العلم لا حدود له.
في هذا السياق العام تأتي الندوة الدولية السنوية التي ينظمها “منتدى مصطفى عزوز لأدب الطفل” في تونس مساهمةً في التعمق في دراسة هذه القضية من جوانبها المختلفة، ولبنةً يضعها في مسيرة بناء أدب خيال علمي عربي متطور يجد فيه الطفل واليافع العربيان ما يساعدهما على تمتين علاقتهما بالعلم من جهة، والحلم بعالم جديد من جهة ثانية.
ويقترح الدكتور محمد آيت ميهوب، على الباحثين مجموعة من النقاط التي تفتح أمامهم أبوابًا جديدة من النظر والدرس ومنها: أنواع أدب الخيال العلمي، وهل من خيط رابط بينها؟ من يكتب أدب الخيال العلمي؟ الواقع واللاواقع في أدب الخيال العلمي. ما هي مظاهر التجديد في أدب الخيال العلمي الموجه إلى الطفل؟ مشكلة الزمن وأدب الخيال العلمي؟ هل يمكن أن تكون رحلة الخيال العلمي إلى الماضي وليس نحو المستقبل فحسب؟ ما فائدة أدب الخيال العلمي للأطفال؟ علاقة أدب الخيال العلمي بالبيئة المدرسيّة؟ ما هو واقع حضور أدب الخيال العلمي في الوسط المدرسيّ ومناهج الدراسة؟ أدب الخيال العلمي والتوظيف الإيديولوجي وكيف نحمي الطفل العربي منه؟
وتذكر سعاد عفاس أن الملتقى يفتتح في العاصمة التونسية في التاسعة من صباح الخميس 4 مايو/آيار وعقب إلقاء الكلمات الرسمية تبدأ الجلسة الأولى التي يرأسها الدكتور محمد آيت ميهوب، وموضوعها “أدب الخيال العلمي الموجه للطفل المتخيل”، وفيها يتحدث: من العراق الدكتور نجم عبدالله كاظم، ومن تونس الدكتورة كوثر عياد، ومن سوريا لينا كيلاني، ومن مصر مصطفى عبدالله.
وفي الرابعة عصرًا تبدأ الجلسة الثانية التي يرأسها الدكتنور نجم كاظم، وموضوعها “اللغة ورواية الخيال العلمي لليافعين”، وفرسانها: حسن صبرة محمود من مصر، عماد الجلاصي، وفاطمة لخضر من تونس، تعقبها شهادات أدبية يقدمها: الدكتور أحمد خالد توفيق من مصر، وسامي الجازي من تونس، ثم تتوالي شهادات المبدعين، وشهادات الأدباء الشبان، يعقب ذلك المناقشات والتوصيات.
ويخصص اليوم التالي لتسليم الجوائز للفائزين في الدورة الثامنة لجائزة مصطفى عزوز والاستماع إلى كلماتهم وتجاربهم.
(ميدل ايست أونلاين)