النقد المقارن في الجزائرمن الكلاسيكية إلى مساءلة الإرث التاريخي
بن علي لونيس
يصعب الحديث عن واقع الأدب المقارن في الجزائر، دون الإشارة إلى الدور الذي لعبه النقد الأدبي في مرحلة ما، ثم الدور الفعّال الذي يلعبه اليوم حقل الدراسات ما بعد الكولونيالية، في تحرير الأدب المقارن من الإرث الوضعي للمدرسة الفرنسية كما توارثه الرعيل الأول من المقارنين الجزائريين. وبسبب هذا الانفتاح على حقول معرفية كثيرة تجدّدت أسئلة الأدب المقارن، ورغم هذا، لا بد أن ننتبه إلى أنّ ما هو موجود الآن من مساهمات في هذا الحقل، لا يعدو أن يكون مجرّد اجتهادات فردية، يقوم بها نفر من الأكاديميين الذين تمكنوا من تحرير رؤاهم المعرفية والنقدية من أسيجة الرؤية الكلاسيكية للدرس المقارن، ويحرّروا الأدب المقارن من سلطة الجدل العقيم حول مَن يؤثّر على الآخر، فهي مساهمات ذات طابع فردي، يصعب على أهميتها، أن تشكّل تيارا مقارنا أو مدرسة مقارنة لها مميزاتها وخصائصها.
كذلك وبالنظرإلى موقع الأدب المقارن في حقل الدراسات الأكاديمية، نجد أنه حقل مهمش إلى حد كبير، وتكمن المفارقة في أننا ننتمي إلى مجتمع أصبح مع مرور الوقت ينفتح على العالم، من خلال ما توفّره وسائل الاتصالات، وشبكات التواصل الإلكتروني، ما يوفّر مناخا مناسبا للانفتاح على الثقافات الأخرى، فلماذا إذن هذا العزوف عن الاهتمام بالأدب المقارن؟
من مبدأ التأثير
إلى أسئلة ما بعد الكولونيالية
بدأت في السنوات الأخيرة تبرز مجموعة من الكتابات التي تهتم بأسئلة الثقافة الوطنية ضمن منظور الدراسات ما بعد الكولونيالية، وهذا التوجه يمكن اعتباره بمثابة النقلة الجذرية للأدب المقارن في الجزائر من التأثير والتأثر، إلى أفق نقدي يروم إعادة مساءلة الثقافة الوطنية في علاقتها بالشرطية الاستعمارية من جهة، وفي علاقتها بقضايا ما بعد الكولونيالية، وما أفرزته من تيارات وحركات نقدية، ومن تلك القضايا نذكر، على سبيل المثال: أسئلة الثقافة الوطنية، الهوية، الذاكرة التاريخية، الآثار الثقافية للاستعمار على الأجيال الثقافية في الجزائر، السرد والإمبراطورية، الآخرية، التمثيل السردي.
هذا الواقع يستدعي السؤال التالي: هل هذا التحوّل هو تعبير عن وجود أزمة أدب مقارن في الجزائر؟ حيث لم تعد الأطروحات الكلاسيكية تستجيب لحدة الأسئلة الجديدة التي تفتقت في وعي جيل جديد من الباحثين والكتّاب. وهل لهذا التحوّل علاقة بروح المرحلة التاريخية؟ حيث أصبح العالم اليوم، وفي ظل الهيمنة الإمبريالية أكثر إلحاحا لاكتساب روح نقدية مقاومة تروم إزاحة السلطة اللامرئية للآخر على الثقافة المحلية. أذكر على سبيل المثال كتابات وحيد بن بوعزيز، البشير ربوح، جمال مفرج، سليم حيولة، اليامين بن تومي، ، خميسي بوغرارة، خديجة زتيلي، أم السعد حياة. الأمر يدور حول سؤال المقاومة في مجالاتها الثقافية والفكرية والجمالية.
من نظرية التأثير إلى شروط تلقي النص الأجنبي
لا يخفى على أحد أهمية فعل القراءة بالنسبة لحقل الأدب المقارن، فالتركيز على فعل القراءة والتلقي يزيح مفهومي التأثير والتأثر، ويقوم بتعطيلهما، لحساب التلقي النقدي للأعمال الأجنبية، من خلال رصد تحولات النصوص الأجنبية حين تهاجر – بتعبير إدوارد سعيد – من الثقافة المصدر إلى الثقافة المستقبلة. يبرز الناقد هنا كحلقة أساسية، على غرار المترجم، في تلقي النصوص الأجنبية، فهو يلعب دور الوسيط بين النصوص الأجنبية بخلفياتها الثقافية، بالمنظومة الأدبية والثقافية للثقافة المستقبِلة، والقراءات التي تنتج عنها تكون بمثابة مؤشر على طبيعة التوجهات الأدبية في مرحلة تاريخية ما. إنّ النقاد يعكسون الحاجات الأدبية والثقافية والجمالية في مرحلة من المراحل التاريخية، كما يساهمون في توجيه الذائقة الأدبية العامة نحو شعريات وجماليات وسرديات مختلفة، من شأنها أن تساهم في حداثة الآداب المحلية. أشير إلى بعض المؤلفات الجزائرية التي تضم قراءات مهمة في الآداب العالمية، ونأخذها نموذجا للتمثيل على أهمية دور الناقد/القارئ في التعريف بالأعمال الأدبية الأجنبية، بل وفي صناعة الوعي الأدبي المنفتح على التجارب الأدبية الأجنبية، أذكر على سبيل المثال كتاب «حلزونيات» للروائي رشيد بوجدرة، الذي يضم جل المقالات التي كان ينشرها في مجلة «الوحدة الإفريقية»، وقد شكلت نافذة مفتوحة على الروايات العالمية، وكذلك كتاب مرزاق بقطاش «الكتابة قفزة في الظلام»، ومؤخرا صدر كتاب للروائي والصحافي حميد عبد القادر بعنوان موحٍ «أسفار الزمن البهي».
يقدّم هذا النوع من الكتب معطيات أساسية عن تلقي النصوص الأدبية الأجنبية، وهي مؤشّر يحدّد طبيعة التوجهات الأدبية والجمالية التي تنفتح عليها الثقافة الوطنية في مرحلة تاريخية محددة.
قراءة الآخر والواقع الجزائري
في كتابه «أسفار الزمن البهي» لحميد عبد القادر تبرز أهمية الانفتاح على آداب الآخرين، لا من منطلق الانبهار المطلق بها، بل لأنّ واقعا سياسيا واجتماعيا وثقافيا محليا كان مهيأ لتحوّل أنظار النخب الجزائرية نحو تلك التجارب الأدبية العالمية. فالآخر ليس فقط ذلك الإمبريالي أو الاستعماري، لكنه هو أيضا ذلك النص الأدبي العظيم، الذي يكتنز قيما جمالية وإنسانية، لم تكن هذه القراءات معزولة عن أسئلة الواقع الجزائري، بل تكاد تكون خيارات القراءة استجابة لنداءات هذا الواقع، وكلّ مرحلة تاريخية كانت تستدعي نصوصها؛ فمثلا كتب حميد عبد القادر عن رواية «الفراشة» للروائي الفرنسي هنري شاريير قال فيها: «هي إحدى أكثر الروايات انتشارا عند جيل السبعينيات، الرواية التي فضحت الجانب الشرير في الإنسان. احتوت على صور لمعاناة الإنسان في المؤسسات العقابية الفرنسية، وظهرت كأدب ساير طروحات ميشال فوكو حول المؤسسات العقابية، وساهمت أحداث مايو/أيار 68 في رواجها.
وفي قراءته لرواية «موت أرتيمو كروز» لكارلوس فوينتيس، وهو ما ذكّره بروايات رشيد ميموني، خاصة روايته « النهر المحوّل»، والروايتان تبرزان انحراف الثورات وخيانة المبادئ والمثل العليا التي قامت عليها. نخلص إلى أنّ فعل القراءة لا ينفصل عن الحاجات التي يفرضها الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي في مرحلة تاريخية محددة، ومقالات حميد عبد القادر وغيره، تستجيب لهذه الضرورات، فالقراءة ليست مجرد خيارات تفرضها الصدفة، بل ثمة شروط تحدد نوعية أفق التوقع الذي هو أفق متشابك مع حاجات الواقع، فالنصوص الأجنبية تخاطب القارئ المحلي أيضا، وتصبح جزءا من عالمه الخاص، لأنها تجيب عن أسئلته، وتفتح وعيه على رؤى مختلفة، بل لأنها تخاطب الإنسان في كل مكان وفي كل زمان.
الثقافة الوطنية
من منظور ما بعد الكولونيالية
وليس بعيدا عن هذه الرؤية المتفتحة على ظواهر أدبية ما بعد كولونيالية، تبرز كتابات الباحث الجامعي وحيد بن بوعزيز نموذجا للمتخصص الأكاديمي في حقل الدراسات المقارنة اليوم ــ ليس في الجزائر وحسب، بل في الوطن العربي ككل ــ من خلال دراساته التي يجمعها خط منهجي ومعرفي ناظم يتمثل في مساءلة النص الأجنبي والنص المحلي، من خلال ربطهما بالسياق الكولونيالي، مستلهما رؤاه التحليلية من منجزات حقل الدراسات الكولونيالية وما بعد الكولونيالية، كما يبرز اهتمامه بما يسميه بجروحات الذاكرة الاستعمارية في علاقة الإنسان الجزائري بالآخر الاستعماري.
وبجانب كتابه المهم «حدود التأويل: قراءة في مشروع أمبرتو إيكو النقدي»، يبدو اشتغاله على مدونة روائية دالة، من بينها رواية «صحراء» للروائي الفرنسي غوستاف لوكليزيو، محاولا اكتشاف موقع هذه الرواية من السردية الامبراطورية، وهل تمكنت من اختراق أسوار هذه السردية، ومصالحة الحقيقة، والاعتراف بالآخر الشرقي كصوت حيوي في التاريخ، يقول الباحث موضحا موقفه من خلال الفقرة التالية: «تحاول رواية (صحراء) للوكليزيو تبيين الاضطهاد الذي تلقاه الشعب المغاربي من طرف الاستعمار الثلاثي: الفرنسي والإنكليزي والإسباني. كما تحاول إيضاح الطابع التواصلي المستحيل بين العرب والغرب، لهذا فإنّ دراسة رواية من هذا النوع يمكن أن تفيدنا بطبيعة هذه العلاقة المعقدة بين العالم الشمالي والعالم الجنوبي، كنتيجة لأسباب تاريخية مرتبطة بطبيعة الحضارة الغربية، ومقدمة لما يعرف اليوم بالعولمة. وهنا لم يعد النقد الأدبي حبيس الغيتو البنيوي، بل انفتح على التاريخ، وتحديدا على التاريخ الاستعماري للرواية الأوروبية. تتجلى المقارنة هنا، في انفتاحها على حقل الدراسات الكولونيالية وما بعد الكولونيالية، والهدف هو إعادة تفكيك العلاقة التواصلية بين الغرب الاستعماري والجنوب المُصادر، عبر اللعبة السردية التي ما زالت لم تتحرّر من التراث الإمبراطوري. كذلك تطرّق بن بوعزيز إلى مفهوم «جروحات الذاكرة» من خلال رواية فيراري الموسومة بـ»حيث تركت روحي»، ويقصد بهذا المفهوم استنطاق الرواية لتاريخ التعذيب في الجزائر إبان الثورة التحريرية، وهو موضوع جريء بالنظر إلى حساسيته التاريخية، فالرواية تنتمي إلى ما يسميه وحيد بالكتابة عن الذاكرة، مميزا هذا النوع من الكتابة عن الكتابة التاريخية، والفرق يكمن في نوعية علاقة الكتابة بالتفاصيل التاريخية؛ فرواية جيروم فيراري ركزت على المهمش التاريخي والمسكوت عنه في التاريخ الاستعماري في الجزائر. وجاء التحليل بالاستناد إلى مفهوم الوعي الشقي الذي تلبّس شخصيات الرواية، (شخصية الضابط الفرنسي المكلّف بتعذيب المجاهد الجزائري)، وعلى الرغم من كشفه لمشاهد التعذيب، وفضح آلياته كما مارسها الفرنسيون على الجزائريين، إلاّ أنّ الرواية لم تتمكن من اختراق الإمبراطورية، وهذا ما انتهى إليه الباحث: «لقد حاول فيراري رأب صدع كبير موجود في الذاكرة المتداخلة بين فرنسا والجزائر، إلاّ أنّه لم يستطع التحرر من اللاشعور الكولونيالي في الرواية، على الأقل في توزيعه غير العادل للأصوات السردية، فصوت العربي لا يكاد يكون مسموعا».
مراجعات الإرث الثقافي الجزائري
وتعد بعض قراءات بن بوعزيز مساءلات للمرجعيات الثقافية في الجزائر، وإعادة قراءتها ضمن منظور ما بعد كولونيالي؛ ففي مقاله «تخليص الثقافة من الاستعمار: مقاربات ما بعد حداثية للمفكر الجزائري مصطفى الأشرف» أعاد قراءة كتابات الأشرف من خلال البحث في علاقتها بالفكر ما بعد الكولونيالي. فالرجل ما قبل الاستقلال يظهر في صورة الفيلسوف التاريخي المدجج بالنقد الذي يروم التنوير، وفك الحصار الكولونيالي على الثقافة الوطنية، في حين أنه في ما بعد الاستقلال هو أقرب إلى نموذج المثقف العضوي المنخرط في مشروع نهضة الدولة الوطنية.
كذلك اهتم الباحث بتأملات بن نبي حول الظاهرة الاستعمارية، لاسيما في مفهومه للقابلية على الاستعمار؛ فإذا كان أيمي سيزار وفانون قد اعتبرا الاستعمار المصدر الأساسي للتخلف الذي تعاني منه الدول المستعمَرة، فإن بن نبي يرى أنّ ثمة شروطا سابقة للاستعمار هي التي هيأت الظروف لوقوعه، وقد استدل بالحالة المرضية التي يعاني منها المسلمون منذ الدولة الموحدية، فقد أصبحوا بدون فعالية تاريخية. وقد سلط بن نبي الضوء على مفهوم «الزعامة» المحتكرة للنضال، إذ أدرك أن الاستقلال لم يحرر العقل من هيمنة مفهوم الزعامة، بل أصبحت السلطة هي مدار صراع شرس بين أشخاص ليسوا أهلا للحكم أصلا، لأنّهم يفتقرون إلى ما هو أساسي ألا وهو «المشروع الحضاري».
يمكن أن ننتهي في الأخير إلى أنّ النقد هو الرافد الأساسي للأدب المقارن في الجزائر، بل أنّ الدراسات المقارنة تجاوزت تماما براديغم التأثير والتأثر، وانفتحت أكثر على الأسئلة المعرفية الكونية، من خلال تأثرها بالتيارات النقدية والفكرية المعاصرة، وإحساسها بضرورة إعادة قراءة الثقافة الوطنية، من خلال تفكيك علاقاتها بالإرث الكولونيالي، وما تفرضه العولمة اليوم من تحديات حقيقية.
(القدس العربي)