‘الاتجاه الوجداني في الشعر العربي بمنطقة الخليج’ يسد فراغا معرفيا هائلا
فريد لطفي أحمد
ظلت الدراسات الأدبية والمتابعات النقدية زمناً طويلاً منحصرة في دراسة الإبداع الأدبي ـــ بصوره المختلفة ــــ فقط، ومع تنامي الدراسات النقدية وتنوع مدارسها واتجاهاتها وظهور ما يُسمَّى بالنقد الشارح أو نقد النقد أصبحت الساحة النقدية الآن مدعوة وبقوة إلى نوع جديد من الدراسات والمتابعات يقوم على مراجعة الدراسات النقدية وفحص مناهجها التي تنطلق منها، وأدواتها الإجرائية التي تستخدمها، مع البحث عن المعايير الحاسمة لدى الناقد في سبيل الوصول إلى سلامة التفسير وتماسك التأويل، ومعقولية الشرح، ناهيك عن تحديد الفروق الدقيقة بين المصطلحات النقدية، مثل هذا العمل إن تمَّ بصورة منهجية يصبح ساحة لمراجعة النشاط الثقافي المرتبط بالأدب، وسبيلاً من سبل الارتقاء به.
ولعل هذه القراءة تحاول تحقيق شيء من ذلك من خلال وقوفها أمام دراسة متميزة بعنوان “الاتجاه الوجداني في الشعر العربي بمنطقة الخليج ” للناقد المتميز د. عادل محمد نيل.
أما عادل نيل فهو ناقد أدبي واعد أَزدادُ في كل يوم يقيناً بقدرته على اقتحام الساحة النقدية، وفرض اسمه كناقد مثقف له اسم يستحق التقدير والاحترام، وهو ينطلق في كتابه من رؤية إنسانية رحبة وموقف حضاري كريم يؤمن بأهمية الإبداع والنقد معاً، وأثرهما في ترقية الوجود الإنساني، كما يؤمن بأن التنوع الثقافي للبلاد العربية داخل في إطار الوحدة التي يضمها خيط ناظمٌ من عروبة اللسان، ووحدة التاريخ والمصير المشترك.
والكتاب يسد “فراغاً معرفيا هائلا” حيث يطلعنا على الحركة الأدبية بشكل عام والشعرية على وجه الخصوص في تلك البقعة العزيزة من جسد الأمة العربية، ولقد مضى زمن طويل والشعرية العربية تكاد تنحصر في دائرة مركزية تضم مصر والعراق فإذا خرجت قليلاً عن تلك الدائرة وقفت تتغنى بسحر الطبيعة على روابي بلاد الشام أو شاركت أطفال الحجارة في نضالهم ضد الكيان الصهيوني، أما منطقة الخليج العربي ودولة الإمارات تحديداً فقد غابت عن المشهد الشعري العربي، وتوارت أصوات مبدعيها حتى عن القواميس التي تترجم لشعراء العربية في العصر الحديث، وفي مقدمتها “قاموس الأدب العربي الحديث” للدكتور حمدي السكوت الذي لم يرد في سفره الضخم إلا ثلاثة أسماء من شعراء الإمارات.
وها هو عادل نيل يطل علينا بدراسة رائعة حول منجز شعري من خارج دائرة هذه المركزية، ويدفعنا إلى معرفة عوالم وأصوات شعرية غير تلك التي ألفناها في الشعر العربي الحديث، عوالم قريبة منا بحكم المشكلات التي تجسدها، والأسئلة التي تطرحها، والمعضلات الوجودية التي تواجهها والتجارب الجمالية التي تخوضها.
يبدأ الناقد كتابه بأربعة مداخل أولية (تاريخي واجتماعي وثقافي وأدبي) تضيء جانباً كبيرا من حياة المجتمع الخليجي، وتعين القارئ على استيعاب ما سيأتي من أفكار في الفصول التالية، وهذا ملمح دالٌ على حرص عادل على قارئه، فهو يتعب نفسه في سبيل أن يقدم له العبارة الواضحة والرؤية الناضجة، في بعد تام عن التعالم والتقعر الذي ابتلي به أكثر نقاد العصر.
على أنني كنت أتمنى أن يضعَ الباحث حداً جامعاً مانعاً يضبط “مفهوم الاتجاه الوجداني”، وأن يقوم برصد حركة المصطلح وتاريخه في الثقافة العربية مع التفريق الدقيق بينه وبين المصطلحات المشابهة، إلا أنه يحسب له أنه أشار إلى امتداد “الاتجاه الوجداني” في تراثنا الشعري منذ عنترة وحتى البارودي، كما أنه يشير إلى أن القصيدة الوجدانية ترتبط باتجاهات موضوعية تتفق مع طبيعة تجاربها التي تتلون بعاطفة الشاعر، وتنعكس في معانيها انفعالاته الخاصة، وتتشكل من مواقفه الإنسانية تجاه الحياة وانطباعاتها في نفسه وشاعريته، لذا تعددت موضوعات القصيدة الوجدانية إلا أن ناقدنا يضع معياراً عادلاً هو الفيصل في تحديد في دخول القصيدة في تجارب هذا الاتجاه من عدمه، وهو صدق الانفعال الشعوري في تجربة الشاعر، وسيطرة النزعة العاطفية في تناوله.
وهكذا يأخذنا عادل نيل في رحلته النقدية البديعة مع تجارب القصيدة الوجدانية حيث نرى حديث الشعراء عن “هموم الذات” وما تنطوي عليه من حسرة وألم، وتطلعنا عين الناقد البصيرة هنا على جملة من الثنائيات الفنية التي تنتظم خلالها الشكوى والألم، من أجل تمكين هذه الأحاسيس في نفس المتلقي، ثم ينتقل إلى الحديث عن “فكرة الموت” وما يحف بها من معانٍ وجدانية ترتبط بحقيقة الوجود، وتعبر عن مأساة الإنسان مع مصيره المحتوم، ورغم قتامة هذه المعاني لا تفارق القصيدة ـــــ في الغالب ــــــ غنائيتها بحيث لا تخرج من الطابع الوجداني إلى الطابع الذهني.
وفي أثناء حديثه عن ظاهرة الاغتراب يضع يده على أحد أهم بواعث الشعور بذلك الاغتراب، وهو “تدفق العمالة الوافدة التي أصابت التركيبة السكانية للمجتمع بخلل فجّ” فأصبح الشاعر يعيش غربة كغربة النخيل.
ومع تباين الثقافات الوافدة على هذا المجتمع تشكل لدى الشاعر إحساس عميق بالاغتراب حيث تجاوز الأمر مجرد تقاليد أو عادات دخيلة يمكن قبولها وهضمها، إلى ما يدخل فعلياً في دائرة الصراع الحاد مع ثقافات قادرة على إحداث تصدع في قيم وتقاليد ثابتة، مما ولد لدى الشعراء أسئلة عديدة “حول الهوية الوطنية” ومدى ثبات مقوماتها في مواجهة تحولات الشاعر الجديد.
وفي ظني أن عادل نيل كان موفقاً جداً عندما اختار “الاتجاه اوجداني” مدخلاً لدراسة الشعر العربي في منطقة الخليج؛ حيث تغيرت الحياة، وتحول المجتمع، وخرج من عزلته التي فرضها الاستعمار الخارجي والظروف الاجتماعية القاسية التي عاشتها تلك البلاد فأخذ وجدان الشاعر الخليجي يتمزق وهو يقارن بين حالين، ويستدعي الماضي الذي أصبح رغم قسوته واحة ندية تفر إليها النفس المرهفة هرباً من هجير الواقع الجديد، الشديد التحول والذي يغص بالمتغيرات الضخمة.
ومن الحديث عن “مظاهر الطبيعة” إلى “التعبير عن عاطفة الحب “إلى “الانشغال بالهم القومي”، يمضي بنا عادل نيل في تحليله لهذا الخطاب الشعري المتميز.
وخلال تلك الرحلة يقف الباحث أمام عدد من الأسئلة المهمة التي تبحث عن إجابات مِن مثل عزوف شعراء الإمارات عن التعبير عن قضية غزو الكويت؛ حيث لم يكن لها ذلك الحضور اللافت في قصائدهم، كما يرصد ظاهرة الانقطاع المفاجئ لبعض الأصوات الشعرية، التي توقفت عن الإبداع واختفت من المشهد، كما لدى سلطان خليفة وعارف الخاجة وغيرهما، مما يؤدى إلى قطع مسار التراكم الإبداعي في تلك التجارب، وحرمان المجتمع من ثمار إبداعها.
وأزعم أن الدراسة في شقها الموضوعي أصدق في التعبير عن الواقع في المجتمع الخليجي من كثير من الدراسات الاجتماعية التي تُعقد لذلك، وهذا هو سر الإبداع الأدبي والنقدي معاً الذي استطاع أن ينفذ في فاعلية مدهشة إلى وجه الإنساني بالغ الشفافية والعمق في الشعر الخليجي تعبيراً عن حضور إنساني جديد في مدن كوزموبوليتانية تحتشد بالعديد من الأعراق والجنسيات.
والكتاب في باب التحليل الفني يطرح الكثير من القضايا النقدية ويضعها على مائدة الدراسة، ومنها على سبيل المثال:
(1) أنه دراسته لظاهرة للتناص يتحدث عن محاولة بعض الدراسات الأدبية الربط بين التناص وبعض المصطلحات النقدية التراثية كالسرقات الأدبية والتضمين، والاقتباس والاستشهاد، يؤكد عادل أن ما يحيل إليه التناص من وظيفة فنية داخل بنية النص يختلف عما تؤديه تلك المصطلحات التي لا تعدو البحث في تأثر شاعر بآخر بإعادة صياغة المضمون، أو البحث في اقتباس نص اعتمد صاحبه على دقة لفظه، أو طرافة معناه، أو ذيوعه لدى المتلقي، بينما يتخطى التناص بوظيفته كل ذلك؛ ليقدم معنى إضافياً، ويصبح جزءاً من عناصر بناء الخطاب الشعري.
(2) عند حديثه عن “تراسل الحواس” يستخرج الباحث من خلال التأمل العميق في النصوص صورة أخرى من صور التراسل هي ما أطلق عليه “تراسل الجوارح”، ويستدل عليها بأمثلة من الشعر الإماراتي، مثل قول الشاعر:
فديتك فانظري نحوي بقلب ** رحيم صيغ من عطف ولين
ولدى العتيبة تداخلت في كثير من الصور وظائف الحواس والجوارح بلغة مجازية تجسد معها معاني وجدانية عميقة ففي إحدى قصائده يقول:
يا سعادي حاولي أن تفهمي ** أن لي في العين قلباً يفهم
وقناع البسمة الحيرى على ** حـــزن عـــينيك عناء مؤلم
أنا أدري بالـذي تعــلـنه ** بسمة الحزم وماذا تكتم
وأغلب الظن أن الغرض من أمثال تلك الصور هو إثارة خيال المتلقي، وجذب اهتمامه عن طريق مخالفة التوقع، والخروج عن المألوف اللغوي.
(3) في الوقت الذي يذهب فيه بعض الباحثين إلى تناسب أوزان دون أخرى مع عاطفة شعرية بعينها في علاقة حتمية تشكل لدى أصحابها إحدى المسلمات النقدية، فإن عادل نيل يرفض اصطناع تلك العلاقة الحتمية، ويرى أن ذلك يعصف بكل جماليات القصائد ذات الأعراض الشعرية المتعددة التي تنتقل من موضوع إلى آخر بنفس الوزن والقافية، كما أنها تعصف بجماليات القصيدة التي تقوم على مقاطع شعرية تتغير فيها الأوزان والقوافي، وتتحد فيها العاطفة.
(4) أظهرت الدراسة على مدار فصولها عدة لوازم أسلوبية في تعبير الشعراء عن موضوعات القصيدة الوجدانية كالمفارقة، والتهكم والسخرية من بعض أوجاعهم، وتوظيف المرأة في الحديث عن انكسارات هويتهم العربية، والاعتماد على توظيف المعادل الموضوعي، و”تجسيد” المشاهد النفسية في تقديم معانيها.
ومبضع النقد في هذا الباب يتدسس في أعطاف النصوص، ويقتحم العوالم الشعرية، باحثاً عن قيمها الجمالية، وطرق تشكلها، ويكشف عما تنطوي عليه تلك النصوص من عذوبة خاصة، وعفوية فريدة، وإحساس رهيف نادر بوطأة الوقع ومأساة الوجود الإنساني.
هذا، لقد بدأت قراءة الكتاب وأنا مشفق على عادل نيل من إخضاع كل هذا الزخم الشعري الممتد في الزمان والمتعدد الأشكال والألوان والمستويات لأدواته النقدية وإجراءاته التحليلية، وانتهيتُ من القراءة وأعدتها أكثر من مرة، ولم يفارقني ذلك الإشفاق، وإن كانت نفسي قد امتلأت حباً وإعجاباً وإكباراً لهذا الجهد النادر، وتلك البنية المنطقية المتماسكة، التي تتعانق مع ذائقة مرهفة مثقفة، يلهيك صاحبها بذكائه النادر، وأسلوبه السهل الممتنع عن وعورة الطريق التي يسير فيها، ومعاناة البحث التي يتكبدها.
وهو رغم سعة اطلاعه على التجارب النقدية السابقة إلا أنك لن تستطيع أن تنسبه إلى مدرسة محددة أو ناقد بعينه تأثر به تمام التأثر، فصاحبنا له صوته الخاص، ومذاقه المتفرد.
على أن الكتاب لا يخلو من بعض الأخطاء المطبعية البسيطة، وشيء من الاختلاط في ذكر أسماء بعض الشعراء والأدباء، وأهم من كل ذلك إغفاله نسبة بعض الأقوال إلى قائليها!
ومازال هذا الكتاب التأسيسي الواعد منطوياً على سره، الذي لم يُكتشف بعد، ومازال بحاجة إلى مقاربات أكثر عمقاً وتخصصاً، وإلى نشرة أوسع دوراناً، والمشهد الثقافي يحتاج إلى هذا الصوت الصافي النقي، الذي يجمع ولا يفرق، ويؤمن بدينه ووطنه وعروبته لعلنا نتقي به وبأمثاله شرور التشرد والتشرذم والشقاق.
(ميدل ايست اونلاين)