أخطاء لم يكن مخطط لها في حياة أدباء عراقيين
صفاء ذياب
يختلف الكثير من الأطباء النفسيين على تعريف الندم وأسبابه، وما يتبعه من مشاكل نفسية واجتماعية.. لكن ربما نتساءل: من منّا لم يندم في حياته، على فرصة أضاعها، أو عمل قام به فأخطأ، أو إقدامه على خطوة أعادت حياته إلى الخلف.. ومهما اختلفت أسباب الندم ونتائجه، لكننا من الممكن أن نغيّر حياتنا في لحظة ما للتعويض عمّا سببته لنا أخطاؤنا، فهل يندم الأدباء على مسيرة مشوهة لسنوات طويلة؟ وهل يمكن أن يعيدوا الزمن إلى الخلف لتغيير دراستهم أو اهتماماتهم، أو حذف كتاب طبع في لحظة غفلة بدون مراجعة، أو كتاب ربما لا يمثلّهم اليوم، أو جائزة أخطأتهم بسبب إرباك ما؟ كل هذه أسئلة تستحق الوقوف عليها، وهو ما سعينا لتوجيهه لأدباء عراقيين لهم تاريخهم ومنجزهم الإبداعي، الذي استمر لأكثر من أربعين عاماً على الأقل لكل واحدٍ منهم: ما الذي ندمت عليه في حياتك الأدبية، وهل غيّر هذا الندم حياتك بالطريقة التي لا تريدها؟
عندما اعتذرت عن جائزة محفوظ
القاصة والروائية ميسلون هادي، تحدد ندمها في حكاية تسردها، قائلة: في عام 2004 أرسلت روايتي «العيون السود» للمشاركة بجائزة نجيب محفوظ، وهي الرواية التي أرخت للحياة البغدادية في فترة التسعينيات، ونالت ما نالت من الاهتمام.. حتى إنها كانت قد فازت بجائزة أندية الفتيات في الشارقة، وتعلقت بأذهان القراء في العراق أكثر من باقي رواياتي. بعد عدة شهور من تلك الجائزة وصلني صك بألف دولار، علمت في ما بعد إنه عن فوز روايتي «العيون السود» بجائزة نجيب محفوظ للرواية، وهو مبلغ الجائزة التي تحمل قيمة معنوية أكثر من قيمتها المادية الرمزية، وكان ذلك الصك بمثابة التبليغ الخاص قبل الإعلان الرسمي. وبما إنني كنت قد عرفت عن الجائزة بالصدفة، في وقت كان فيه الإنترنت غير شائع الاستعمال في العراق، فإني لم أكن أعلم أن أحد شروطها هو عدم فوز الرواية بجائزة أخرى مماثلة، لهذا بادرت الاتصال بإدارة الجائزة وأخبرتهم بأن روايتي سبق لها الفوز بجائزة أخرى.. فشكروني على أمانتي، وقرروا أن يعيدوا تحكيمها لتذهب إلى مرشح آخر. وعلى الرغم من كون جائزة أندية الفتيات لا تعد ضمن الجوائز المماثلة، أو المنافسة لجائزة نجيب محفوظ، إلا أن إدارة الجائزة لم تظهر المرونة اللازمة مع المعلومة التي استبقتهم إليها. وقد جعلني هذا أشعر بشيء من الحزن، وليس الندم.. كما لامني كثيرون على تلك المكالمة الهاتفية التي حرمتني من الجائزة، وحرمت الرواية من فرص الترجمة والانتشار العربي، وقالوا لي إن الرواية لم تكن لتخالف الشروط، حتى لو أنني علمت بها، ولكن هذا لم يكن رأي عماد الذي أجابني على الهاتف، وشكرني على التضحية بمثل هذه الجائزة.. وما زلت أحتفظ بصكها الذي لم أصرفه بالطبع.
ضياع لغة
فيما يعود الشاعر عيسى حسن الياسري إلى ذكريات طفولته، حينما يقول إنه منذ دراسته الابتدائية، في الصفين الخامس والسادس الابتدائي في مدرسة الكميت الابتدائية، في محافظة ميسان.. كان يدرّسهم اللغة الانكليزية الاستاذ علي عبد الكريم، وكان الياسري من أفضل تلاميذه في هذه اللغة.. «حتى أنني أخذت علم اللغة الإنكليزية لسنتين متتاليتين».. هذا العلم يعطى لمن يحصل على درجة 100% في المعدل النهائي للسنة الدراسية.. وعندما وصل الياسري للدراسة المتوسطة استمر تفوقه في هذه اللغة، وقد بلغ ذروته في دار المعلمين على يد الاستاذ عبد الواحد محمد حيث أوصل طلابه لإصدار نشرة مدرسية باللغة الإنكليزية.. تتضمن نصوصاً شعرية ونثرية لأدباء إنكليز، يقوم هؤلاء الطلبة بترجمتها تحت إشرافه.
ويضيف الياسري أن المحزن أنه عندما تخرج في دار المعلمين عام 1963.. وعيِّن في مدرسة ناحية الشيخ سعد الابتدائية.. أسندت له مادة اللغة العربية، لأنها كانت شاغرة.. فأهمل بسبب ذلك اللغة الإنكليزية، وانصرف إلى تدريس اللغة العربية، وتطوير أدواته الكتابية في الشعر.. و»حتى عندما وصلت بغداد انشغلت بالعمل الثقافي في الصحافة، ولم أدخل معهدا لأستعيد تلك اللغة، والآن، وأنا أعيش في كندا منذ سبع عشرة سنة لم أستطع استعادة ما خسرته من هذه اللغة.. لذا أشعر بالحرج كلما دعيت إلى مهرجانات شعرية عالمية، تقام في مونتريال أو في دول أخرى.. حيث ألتقي شعراء عالميين كنت أحلم بلقائهم.. وأشعر بالخجل عندما استنجد بمن يقوم بالترجمة بيني وبينهم». وينهي الياسري كلامه: عدم استمراري بتطوير لغتي الإنكليزية يمثل لي ذروة الندم الذي ظل يلاحقني حتى اللحظة.
بين الشعر والسرد
غير أن الروائي إبراهيم أحمد يؤكد على أن حالات الندم في حياة كل كاتب كثيرة، إلا إذا كان يغالط، ينسى أو يتناسى، أو يكابر ويدعي! تحدث حالات وعي الخطأ، أو النقص والضعف ثم الندم بعد فوات الأوان، وتراكم المعرفة وتعمق التجربة، لكن «أشد حالة ندم وعيتها مؤخراً، وما زلت أعيش مرارتها، هي تلك التي تتعلق بعلاقتي بالشعر، وقصيدة النثر بالذات، فقد بدأت حياتي الأدبية بكتابة الشعر، نظماً على الطريقة التقليدية في البداية، ثم تحولت إلى النص الشعري النثري المطعم بأبيات تعتمد الوزن وأحياناً القافية، ونشرت نصوصاً منها في جرائد ومجلات عراقية، ابتداءً من أواخر الستينيات وحتى بداية السبعينيات، حتى حصلت واقعة تتعلق بنشر قصيدة لي ويطول شرحها الآن، فداخلني فجأة شعور بعدم جدوى نشر الشعر! لكنني لم أتوقف عن كتابته، أو بالأحرى هو لم يتوقف عن الهطول في القلب كالمطر أحياناً، حتى إنني بعد خروجي مضطرا من الوطن تركت خلفي مخطوطة مجموعة شعرية تولى الأهل حرقها بعدي، معتقدين أنها مستمسك جرمي قد يعرضهم للمساءلة من قبل شرطة الأمن، الذين ظلوا يترددون على البيت يبحثون عني، لسنوات امتدت لأكثر من ثلاثين عاماً لم أتوقف عن تدوين ما يعن لي من نصوص شعرية، لكنني لا أنشرها، ولا أتحدث عنها، بعضها تسرب إلى صفحات قصصي ورواياتي. قبل أكثر من سنة قررت أن أنشر بعضاً من هذه النصوص، وقد تجمعت بما تشكل مجموعتين أو ثلاث مجموعات، لكن ندماً يحز في قلبي الآن، إنني لم أنشر الكثير مما كتبته وضاع معظمه في حلي وترحالي بين منافٍ امتدت بي لما يقارب الآن الأربعين سنة».
ندم مضاعف
وحسب الشاعر هاتف جنابي، فإن المرء يندب حظه أحياناً، فتراه نادماً أو متحسراً، على لحظات وخطوات أو أشياء، يراها فلتتْ من بين يديه، من ذاكرته، من إيقاع عمله، أمور لم يقتنصها لهذا السبب أو ذاك.
شخصياً- يقول جنابي- ثمة ما يحزنني على هذا الصعيد، كنتُ لأسباب معقدة ضبابية متناقضة واضطرارية أحياناً، وخلال سنوات، أحرثُ خلافاً لمعظم زميلاتي وزملائي من الكتاب والأدباء، في أرض لغوية وثقافية هي ليستْ أرضي، فضعف حضوري في حقلي وفضائي العربي. فجأة، استيقظ الجانب الخبيء داخلي من النقد الذاتي، أثناء وجودي باحثاً زائراً في جامعة إنديانا الأمريكية (1993- 1994)، فأخذت أتساءل بإلحاح يقرب من الهوس: لو أنجزتُ عُشْرَ ما أنجزته باللغة البولندية شعرياً، نثرياً، وأكاديمياً، باللغة الإنكليزية؛ مثلاً، لكنت علَماً عالميا حقا! وبما أن التفكير في الكتابة باللغة الإنكليزية جاء متأخرا، لذا تراني أخذت أتنازل عن الكتابة بغير العربية بشكل دراماتيكي، حتى وصلتُ إلى مرض الخوف من كتابة مقالة أو نص، بلغة غير لغتي الأم. أصبحت الكتابةُ أكثرَ من ذي قبل حاجة وجودية جعلتني أرفع شعارا قاسيا: الكتابة أو الموت.
على صعيد آخر، تأخر جنابي كثيراً، في تدوين مذكراته ويومياته التي كان بإمكانها أن تستحوذ على مجلدات، نظراً لإقامته في أماكن وقارات عدة، ولتنوع وأهمية حواره مع الآخر على مستويات مختلفة. «كان عليّ أن أصدر ألبوماً مدعوماً بنصوص وصور لصداقات وأحداث، ولقاءات وندوات، فلم أنجز مادتي في وقتها، والآن بعد كل هذه التشتت أبحث عن استعادة تلكم الأجواء، تلك الصور والشطحات والأفكار التي كانت في متناول اليد».
كما أن هناك عدوى أخرى سرَتْ في أوصال جنابي فترة من الزمن، ذات شقين، تتمثل في فقد بعض الوقت بسبب انشغاله في أمور بحثية وحياتية، بسببها لم يكنْ في وضعٍ يُؤهله للتواصل عبر السفر إلى البلدان العربية، لنشر ما كتب من شعر وقصص وترجمات ودراسات مهمة من وجهة نظره، واستعادة عبق التراب والهواء ونفض معطف المنفى الثقيل «تجاهلتُ نفسي والتعريف بها طويلاً، انطلاقاً من تقليد قديم يقول: على الآخرين أن يقوموا بذلك». الشق الثاني، هو أنه بدأ الكتابة في وقت مبكر من حياته وهو في العراق: شاعراً وقاصاً، لكن في ما بعد، «بسبب حريق شقتي المستأجرة عام 1989 في وارسو، خسرتُ ثلاث مخطوطات: واحدة شعرية واثنتان قصصيتان. أصابني الحريقُ بخسارة روحية ومادية، بهلع ضربني عمودياً بتيار اللاجدوى لسنوات، وخامرني شعور غريب عليّ، يعني، لا معنى للتعجيل في تعويض خسارتي القصصية. كان ذلك خطأ واستهتاراً عدمياً فادحاً لم أغفره لنفسي، باعتباري كاتباً مجتهداً. ولعل ما ندمت عليه أيضا هو أنني نشرت في العراق باسم هاتف الجنابي نصوصاً شعرية ونقدية، وكان علي أن أحتفظ باسم جدي كركور كما هو مثبت في وثائقي الرسمية لقباً، لا بالألقاب العشائرية التي أمقتها، حتى أنني لم أتمكن من فعل شيء أكثر من حذف أل التعريف من لقبي!».
وينهي جنابي قوله: ندمتُ، بلى، ندمتُ…
كنت وأكون وأسعى
من وجهة نظر الشاعر زهير بهنام بردى، فإن العملية الإبداعية كما يراها لا تخضع إلى شروط، وهي برمتها موقف إشكالي درامي مخيالي تنبض بالتجدد. لا تميل إلى التقليد المقيد بالوحدات والنظم وآلية تزيين الفوضى، وهي تمضي في خلق علاقة فنية تثير باستمرار جدلاً ومتخلية عن أشكال لابد أن تنحل ثم تنضج بانتشاء سلسلة لحظات لا ماضوية، على الأخص تلك الحاضرة غداً، في مجموعة من نداءات الأنا الجمعية الحاضرة في وجودها الواضح.
ويضيف بردى: ولأن المبدع يكرر العمل الإبداعي كل لحظه بشكل مختلف في استدعائه، فسحة أو لقطة أو ومضة بين اللغة ومجال الرؤية، فإنه لابد أن يكون حاضراً يقف على تخوم وحدات زمنية ولغوية وباستمرار، تعكس له هذا التشكيل الجدلي بين الكلمة في آلية إدهاش النص واللغة، بوصفها تشكيلا جماليا والأداء بوصفه لا مكانياً ولا زمانياً. مبيناً أنه قرابة وقت متداخل تجديدي، كان وهو يسعى منذ بداية العقد العمري المتسم بإدهاش البصر، ثم تحديداً قبالة لحظة استباق لخيال متشظ بدون أن يؤشر إلى اعتبارات تقنية وشكلية وتفسيرية، و»كنت بذلك أدفع تصاعدياً تقنيات المغايرة النصية، مرات منتبها إلى تجاوز المضمون والمألوف والشكل والمألوف السائد والمتغير، وكنت أطيح بكل وصف منسجم مع تشظيات اللغة، في البدء كنت أتعاطى النص تفكيكياً بضجيج الحلم، ثم بعد علامة استفهام قصدت شعرية السرد، بتشكيل العملية الإبداعية والإشكالية ضمن السيرة الشخصية التي أثارها نداء الجمالي والفكري، فأمسكت الحسي وتكفيني اللغة الحية لأكمل غطرستي في إيقاظ التأملي ممزوجاً بالخيال، ولا أقتنع إلا أن أكون في الضفة غير المألوفة والممتدة والمغرورة بشكلانيتها الإنسانية، والمتجسدة في بناء لغوي مائل إلى الأنا الجمعية بالضرورة. فأقرب مجسات جميعا لأنحت وسع اللغة، في المتطلب الشكلي، وتعدد الانفتاح على المناطق والأمكنة والأزمنة والأداء الأكثر عتمة، والأجمل غموضاً الذي يبحث عن كوة الضوء بين دفتي اللغة التي تعنيني باستمرار. وما يشع من اللامرئي ينضح في الحلم وينفي خدعة الحضور الواضح المتجسد، بوصفه انعكاسا لعلاقات لغوية أو صور شعرية تندفع من الآخر إلى الآخر، وإلى المستحيل، والآتي من المكرر في الزمن والمكان لأؤسس بناءً على ذلك، لحظة كامنة في وهم الجوهر. ولكي لا أفكر أن أتراجع لحظة من بصر، وهو يمشي قبلي إلى أمام الضوء في مشغلي الأدائي الإبداعي الأبدي، وأمسي وراهني، كنت مصراً على أن أمشي معي وأمامي ومعي ولي، وأن أكون أنا، ولهذا مضيت إلى الضوء فقط، ولم أندم، وكنت أؤسس لغدٍ كنت أبغيه وما زلت في سعيي ومنظور رؤاي وعملي الإبداعي أن أكون وأسعى.
ويستمر بردى: ودائماً في توقيت إجرائي أقول لابد أن أمضي بمنجزي في معظم أدائي وتاريخي وانغماري في العملية الإبداعية، ما ندمت على شيء، لكن في جدلٍ لابد منه، أترك الرماد وأنقي نوافذ اللغة، هذا الإجراء هو ما أعوّل عليه، واستمر بلحظة حضوره معي دائماً.
(القدس العربي)