السُّلوك النمائي في ‘المركب السّكران’
قيس مجيد المولى
د. عبدالغفار مكاوي عند ترجمته لقصيدة “المركب السكران” للشاعر رامبو، يقول للقارئ أرجو أن تصبر على قراءتها، كما صبرت أنا على ترجمتها.
ومن هذه المقولة لمكاوي نجد بأن الصور الشعرية لا تَخلق تماسكا ما بينها بل امتزاجا يأتي من تباعد الأضداد ومن قوى محفزة طاردة، وليس من خلال قوة التراكيب بل من خلال قدرة التصورات التي تؤطر بالتمرد واللامتناهي غير المحدود وتفجير الرتابة والسكون للوصول إلى مساحة كافية لعملية الخلق التي تنعم بقدراتها ضمن إشتغالها وصولا الى حرية لا حدود لها.
والمغزى من ذلك النيل من الوحدانية وإيجاد تعابير لا تتعالى إلا على الأشياء القذرة لتمجيد الكلي الذي يقدم تقاربا ما بين الإنسان ووسائله الأخرى، ولعل ذلك يعني لدى رامبو إدراك الإتجاهات التي تخلق ذلك التعاطف الذي بني أساساً من تفكك اللامرئي وعزل لواحق المشاهد المرئية ضمن فواصل الإسترخاء الخيالي والذي يشابههُ من وجهة أخرى الحالات الإرتدادية في العقل الباطن والتي تكون على شكل نوبات قريبة من نوبات الجنون.
ومما لاشك فيه أن التأمل في “المركب السكران” كافٍ لتقريب ما يعتلج في النفس أولاً وما يراد ثانياً من سرعة آنية للظفر بالمتعة التي هي تارة متعة صريحة، وتارة متعة تخفيها الحوادث وتحتاج الى المزيد من التنقيب:
عندما هبطت مع الأنهار العصية
أحسست أن ملاحيّ
تخلوا عني
تركتُ الأمواج تسوقني
الى حيث أشاء.
لقد قدم أرثر رامبو في “المركب السكران” شكلا آخر للإغراء والدهشة عن طريق محاورة النفس عبر ما هو مجهول فيها، وهو على يقين بأن ما يطرحه فهو مرتد عليه لامحالة، فالرضا لديه تم على أساس تبني اللغة التي تنحو الى الحسية والتي تعني بأن المجهول في تضاد تام وشامل مع الواقع، الواقع الذي أسس عليه مجهوله وألبسه عتمته الخانقة، وهو سلوك نمائي يحرص الشاعر من خلاله على أي شيء ولا يلقي بتبعية تلك التضادات خارج قوانينها، فالمكان المعلوم تسخر وقائعه خارج المساحة المعلومة، وتتم الإشارة لتلك الوقائع عبر الأبعاد النفسية، وكأن ذلك الصراع عند رامبو فيه شيء من السرية المتعالية ذات الحشد الإنفجاري القابل للإتساع واتساعه يكمن في تهيئة أبعاد أخرى لأشكاله الجمالية:
أتنام منفيا
في مثل هذه الليالي
العاصفة باركت صحويَ في البحار
أخفّ من سدادة رحت أرقص فوق الأمواج
التي تدحرج ضحاياها الى الأبد
عشر ليال غير آسف على وهج المصابيح السخيف
ورأيت ما يتوهم الإنسان أحيانا يراه
والقُبل تصعد ببطء في عيون الأمواج
إن خلق تشبيه من خارج لا تشبيه يعني تجديد عملية الخلق للأشياء غير المتشابهة وتحويل المتضادات الى متقاربات تميل صورها الى الغرائبية في تشكيل المعنى مع إدامة الإسترسال في المشهد الشعري دون الالتزام بتتابع الصور وتكديسها في مناطقها المتوالية.
وهذا التصور في الشعر والذي إمتلأ به “المركب السكران” يعود الى نشاط المخيلة وفاعليتها في الدوران حول اتجاهات مختلفة وموجودات ليس بالضرورة أن تكون ضمن المناخ العام لما يهئ له الشاعر ويكون مضافا لما تأتي به المخيلة، ومثل هذا النسق يعني إقصاء الأشياء المرتبة والمتوقعة، وبذلك تكون القصيدة قد امتلكت سحرها الخاص وفعلها غير المتوقع وانبهاراتها المتنوعة فتختفي النسبية في تقدير قيمة المنتج أو أي إستمالة لما هو مكرر ضمن وصفه بل وحتى ضمن تشكيل بنية جديدة على ركام بنية أخرى.
إن تشكيل القصيدة في “المركب السكران” يفكك بعضه البعض لتبدأ عملية الخلق بعد هذا التفكك ثم تجرى عمليات لإدامة زخم ما نتج عن هذا التفكك في فضاء واسع لوجود الحدث الأوسع، أي قدرة رامبو على خلق أنساق من الوقائع (الأحداث الصغيرة أو الكبيرة) ضمن الحدث الواحد خارج مساحات الصور المألوفة فيبدو هناك شيء من الألغاز أو شكل من أشكال الغموض والأهم فيهما أنهما لم يكونا مصطنعين وهو ما يدعم حضور الأشخاص على مواجهة القدر في القصيدة.
في هذا التوسع لدى رامبو في مركبه السكران يكشف عن إثارة الجمالية في العنف وفي الصخب، واللتين سريعا ما يتحولان الى ضوضاء فاتنة تكشفان محتويات ذلك المجهول ثم الإفادة القصوى من موجوداته للإنطلاق نحو مجهولٍ آخر.
(ميدل ايست اونلاين)