«لمسة شر» للأمريكي أورسون ويلز تحقيقات جنائية بنكهة سياسية

سليم البيك

ضمن أمسية واحدة، عرضت سينماتيك تولوز، في ذكرى ميلاد أورسون ويلز، فيلميه «لمسة شر» و «أوتيلّو»، وهما اثنان من أفضل أفلامه كما أنهما من أفضل الأفلام في صنفيهما: الأوّل كفيلم نْوار/تحقيقات والثاني كفيلم شكسبيريّ. كنّا قبل أيام قد قدّمنا هنا مراجعة لفيلم «أوتيلّو» وهذه الأسطر تقدّم مراجعة لفيلم «لمسة شر»، كنوع من استعادة لأحد أفضل المخرجين في تاريخ السينما.
كعادته، كمخرج «أوتور»، أي مؤلّف لأفلامه وصانع لها، في زمن (أكثر من اليوم) كانت الأفلام ملك استديوهات الإنتاج وكان المخرج موظّفاً في عملية صناعة الفيلم. ينتمي هذا الفيلم لصاحبه، فويلز إضافة لكونه مخرجه، هو كاتب السيناريو له، سيناريو بحبكة معقّدة تستلزمها أفلام النوار، وهو كذلك ممثل رئيسي فيه. الفيلم إذن عمل فنّي لصاحبه قبل أن يكون منتَجاً تجارياً يدرّ المال من خلال شبّاك التذاكر.
وهو فيلم نوار، أفلام الجرائم والتحقيق، فيكون الفيلم عبارة عن عملية التحقيق المتشابكة حيث الألغاز والغموض. وكان «لمسة شر» من أواخر أفلام النوار بشكلها الكلاسيكي، التي امتدّت على سنوات الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، إذ أن أفلام التحقيقات ماتزال تُصنع، لكن بأشكال أخرى أكثر حداثة.
إضافة إلى ويلز، الذي لعب دور محقّق أمريكي، شرّير، مثّل بدور رئيسي في الفيلم كل من شارلتون هستون بدور محقّق مكسيكي، خيّر، وزوجته التي أدّت دورها جانيت لايت التي صار وجهها معروفاً واشتهرت صرختها، بعد ذلك بسنتين، في فيلم «سايكو» للبريطاني هيتشكوك.
يبدأ الفيلم بمشهد واحد طويل، رجل، هو المحقق المكسيكي، وزوجته يعبران من نقطة حدودية من المكسيك إلى الولايات المتحدة، على النقطة ذاتها تتواجد سيارة سنراها تنفجر بعد لحظات، بعيداً عنهما، وقد بدت كأنّها كانت تتعقبهما. من هنا يبدأ الفيلم وتبدأ حكايته، وهو أسلوب كلاسيكي في أفلام النوار للبدء بالحكاية: حدث فجائي يحصل في بداية الفيلم، دون تقديم للشخصيات أو تمهيد للحدث، وبناء على الحدث والتفاعل معه وعلاقته بالشخصيات، ستتطور الحكاية المرتبطة تماماً به، إذ يتطوّر الفيلم بالعلاقة مع عملية التحقيق في التفجير ذاته.
بذلك، يتركّز الفيلم على (ويستغرق وقته في) الحبكات الفرعية والألغاز المترابطة اللازم حلّها وهو الأساس السردي لأفلام النوار، وذلك غير أساسها البصري الذي نراه في الإضاءة والعتمة والظلال، ما يجعل الفيلم، هذا الفيلم وأي فيلم نوار، يدور في غالبه ليلاً، وفي أمكنة معتمة ومظلّلة نهاراً، لإتاحة مساحة أكبر للأساس البصري الذي تقوم عليه هذه الأفلام: العتمة والإضاءة والظلال بينهما، وهو ما يتوافق مع مضمون الفيلم (أفلام النوار) من حيث الغموض.
يتشارك المحقّقان، الأمريكي كوينلان والمكسيكي فارغاس، في عملية التحقيق ذاتها، كونها مرتبطة، كموقع الجريمة، بالبلدين، لا يتبادلان الود، إنّما، من خلال تطوّر شخصية كل منهما، بمعزل عن الآخر، نعرف أيهما الخيّر وأيهما الشرير، نعرف لمَ كلٌّ منهما لا يكنّ الود للآخر، فالتفاوت بينهما واضح مهنياً كشرطيّين، وإنسانياً في علاقتهما مع من حولهما، فأحدهما يحب زوجته ويحنّ على شاب اعتُقل ظلماً، والآخر وحيد ويتردد على بيت الدعارة، بدين بشكل مفرط ونزق وعدواني. ملامح وجه كل منهما تشير إلى ذلك أيضاً. فالصراع هنا ليس بين مجرم، وإن تواجدت عصابة في الفيلم بدا رئيسها أحمق، وبين الشرطة، بل بين نوعين من الشرطة، ووجود العصابة هنا قد يكون ديكوراً لإتمام عناصر فيلم النوار، أو فيلم التحقيقات الجنائية.
هنا يكمن أحد وجوه التميّز لدى أورسون ويلز صاحب الموقف السياسي، وقد تجلى ذلك في باقي أفلامه، حتى تلك المنقولة عن مسرحيات شكسبيرية كـ «أوتيلّو» و «ماكبيث»، فالمسألة أكثر تعقيداً من عصابة شريرة وشرطة خيّرة، ليجرّ الوعيُ والالتزام السياسيين المخرجَ الأمريكي إلى تعقيد داخل الجهة الواحدة، التي يقول لنا ويلز هنا بأنّها ليست، فعلاً، واحدة كما تبدو، وأن مسألة التصنيف بين خير وشر أكثر تعقيداً مما يمكن أن تبدو ظاهرياً. إن كان لا بد من الإشارة إلى مشهد يدلّ على ذلك فهي المشاهد الأخيرة التي يرتكب فيها المحقّق الأمريكي جريمة قتل بحق رجل عصابة وزوجة المحقق المكسيكي، ويبلّغ الشرطة بأن هنالك جريمة حصلت في المكان عينه، ويهرب. هذا التعقيد الذي أنهى به ويلز فيلمه، وهو أحد أفضل أفلامه، يشير إلى ضرورة الانتباه إلى الشر في دواخل المفترَض بأنّهم أخيار. قد يشير إلى ذلك ما قاله المحقّق المكسيكي بأن «عمل البوليس (رجل الشرطة) سهلٌ فقط في الدولة البوليسيّة».
الفيلم بديع، عدا عن كل ما ذُكر، من ناحية التصوير، العلويّ والسفليّ للشخصيات والأجسام، الديكور المتقشف والمتداخل ما يتيح لعباً أكبر على الظلال، ما يمكن أن يجعل الفيلم مثالاً ممتازاً، وخاتمة ممتازة، لكلاسيكيات فيلم النوار.
كالعديد من أفلام ويلز، أُجبر الفيلم (Touch of Evil) في حينه على عمليات مونتاج رقابيّة أجرتها شركة الإنتاج، إلا أنه، بنسخته المتوفّرة لدينا اليوم، هو الأقرب لما أراده ويلز، وهذه النسخة تمت استعادتها بعد رحيله بسنوات فقط.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى