متلازمة «سوا ربينا» في فيلم «محبس» للمخرجة اللبنانية صوفي بطرس
محمد يعقوب
العلاقات السورية اللبنانية، حسب المخرجة صوفي بطرس، هي علاقة غرامية مؤهلة للوصول إلى النهايات السعيدة، بعد أن تمر ببعض المتاعب الصغيرة التي تستطيع الكاميرا تجاوزها بدون أي خدع تلفزيونية، بعكس العلاقات اللبنانية اللبنانية التي يعرضها الفيلم، كداء مزمن يتجاوز سوء الفهم وخلافات وجهات النظر إلى الخيانة العظمى بمعناها الجسدي، يظهر السوري في أحسن الحالات، الهيئة المرتبة الأنيقة والشكل المشذب إلى جانب الأنفة وشموخ الثقة بالنفـــــس، وفوق كل ذلك حضور تقني في المطـــــبخ قادر على تحضير أفضــــل ما تشتهية العين، ويطيب على المعدة من مأكولات، بينما يبدو اللبناني مرتبكا وخجولا ومربوطا إلى الماضي الذي يقف عند تاريـــــخ محدد لا يريد تجاوزه، يجعله غير قابل للتفاهم حتى مع صوت كصوت صباح فخري، يقدم الفيلم الأنماط السورية اللبنانية بدون أن يفصح عن المكان الحقيقي الذي أتت منه، وكان مزاجيا وهو يقوم بتشكيل كياناتها النفسية والعصبية، متجاوزا راهنا مفجعا، ومراهنا على ثلة منتزعة من واقعها ترفض الاعتراف بأنها تعيش على مقربة من زلزال وتتعامل بمنطق الاستطراد وإدارة الظهر والتعامي عن الوقائع بذريعة خفة الدم.
يتبنى الفيلم حكاية شاب سوري يخطب فتاة لبنانية، تسترجع المخرجة خلالها العلاقات بين البلدين بطريقتها الاختزالية، حيث تسلط على المشهد عدسة ذات محرك قلق أو ربما متحيز، لم يتبق من الحرب اللبنانية اللبنانية، التي كانت سوريا طرفا عسكريا فيها، غير صورة لخال الفتاة المخطوبة غادة، وهو يحتفل وفي يده كأس عرق، يقدمه السيناريو على أنه قتل بعد أن تلقى قذيفة سورية، يبقى الفقيد حيا في خاطر أخته تيريز والدة غادة، فيتبادلان حوارات أخوية كراهية السوري محور لها، فيتحرك القتيل ضمن إطار لوحته المعلقة على الحائط محرضا أخته ومغيرا وضعياته في الكادر الخشبي ليبقي جذوة الكراهية مشتعله في قلب تيريز المجروح، ينجح الشقيق القتيل في إبقاء السوري في مخيلة تيريز كجندي يطلق قذائف هاون عشوائية، وتخاصم تيريز بعد هذه الحادثة حتى صوت صباح فخري، وتصبح كلمة سوري من المفردات المحرمة أو المنطوقة بطريقة هامسة، تجبرها المخرجة على مواجهة موقف كذلك الذي تفرضه الكاميرا الخفية على ضحاياها، يستمتع السيناريو وهو يعذب السيدة تيريز، في محاولة ابتلاع السوري سامر وعائلته، كخطيب وزوج لابنتها الوحيدة.
لا تتناسب المقالب التي نصبتها تيريز لسامر لتتجنبه كخطيب لابنتها، ومقدار الكراهية التي أظهرتها تجاه السوري، وكأن الكره لم يكن إلا «كريزة» مؤقتة تجاوزتها بعد أن أحدثت شغبا بسيطا أدى الى تقوية علاقة الحبيبين، ولكن المطب الذي وقعت فيه كان أقسى من حالة الكره المؤقت الذي كانت تعانيه، اكتشفت أن زوجها على علاقة آثمة مع سكرتيرته، تيريز السيدة التي تجاوزت منتصف العمر ومازال بريق ابتسامتها قادرا على التغاضي عن حالة الكره، ولكنها لا تستطيع تجاوز الخيانة، تخلع محبسها وتعيده للزوج الخائن، دون أن تتخلى عن ابتسامتها الفضية، التي تلقت بها خبر السوري الذي جاء خاطبا، تظهر المخرجة أن علاقة اللبنانيين بعضهم ببعض أكثر تعقيدا من علاقاتهم بجيرانهم السوريين، فرغم حالة التقارب اللبنانية، التي تصل إلى حد الزواج، وظهر في الفيلم على أنه ماروني، فهناك حالة خيانة مبيتة يتبادلونها سرا مع امتلاك كل الأطراف الأسباب المبررة، وعلى وقع أجراس كنيسة صغيرة على رأس جبل يكلل العروسان ويفضلان التقاط صورة عائلية على يد مصور محترف، وليس على طريقة السيلفي، في هذه اللقطة يستيقظ مخرج الإعلانات المتستر عند صوفي بطرس لتشوش الصورة ويغادر أفراد العائلتين مكانهم ليتجمد المشهد عند حركه خاصة بكل فرد من أفرادها مع احتفاظه بابتسامته الخاصة.
يمكن أن تتناول السينما مواضيع عميقة بشكل بسيط وتنجح في ذلك، ولكن عندما تعتقد السينما أن المعادلات الصعبة متعددة العوامل يمكن أن تحل بقبلة بين شابين في معبد، فذلك يتجاوز هذه البساطة، خاصة أن المخرجة مارست رقابة صارمة على ذاتها، بقطعهـــــا للمشهد قبل أن تقطعه الرقابة، ثم وقعت البساطة المفتعلــــة في أزمة بإبراز مشاهد الصراع المسلح بين أهل الضيعة، وهي حالة تماد في إظهار الخلاف الداخــــلي اللبــــناني المستعصي، لم ينجح افتعال العــــمق بحشد مجمــــوعة من الكومبارس على شكل صفين متواجهـــين، يفصل بينهما سلك شائك وأســــلحة كلاشينكوف موجهة إلى السماء، وحـــتى رصاصة «الســــوري» لم تفلح في الفصل بينهما، كان المشهد ضيفا ثقيلا على النص ودرسا مباشرا للمشاهد، وخارج سياق طلب الزواج المفترض، خافت المخرجة أن يفوت المشاهد حالة الحرب الدائمة فسجلتها في سياق منفصل عن سياق الخطبة، ولم تستفد كثيرا من استعاره شخصية نجيب وقالب بسام كوسا من المسلسل التلفزيوني الناجح «الفصول الأربعة» فالضحكات التي أطلقها الجمهور كانت نابعة من ذكرى لطيفة تركتها الشخصية النمط، أما ما فعله بسام كوسا فهو مجرد لملمة لرداء تلك الشخصية، فقد كان باردا ومباشرا وممتثلا لتعليمات كلاسيكية دأبت عليها دراما التلفزيون ولمرات عديدة.
لم تفعل المخرجة أكثر من تنفيذ كلمات السيناريو الحرفية، فالعدسات تلاحق الشفاه والعيون، وحين أتيح لها الانطلاق الفسيح، لتصور رقصة تانغو يتكئ عليها السيناريو، لتسجل تلاصق الحبيبين وأجسادهما المتحدة، اختارت مكانا ضيقا لا يظهر معه أكثر من الرأس والكتفين، فلم يبق من التانغو إلا الموسيقى، التي بدت زائدة على المشهد وأفلتت المخرجة فرصتها في ترك كاميرتها تعبر، وأصرت على ترك الحوار مهيمنا على صالة السينما، نادين خوري بجسدها المتخشب ونظرتها المتخثرة مثلت أرستقراطيه تركية وليست سورية، ولم تعبر المروحة التي لم تفارق يدها عن حرارة الطقس، بقدر ما عبرت عن تمسك المخرج بشعارات متعارف منذ أيام التلفزيونات الأولى، التجربة الأولى لا تبرر أي اختصار، أو اجتزاء للفكرة، ولا تبرر سطحية التعبير، وتجربة صوفي بطرس لم تعبر عن العلاقات السورية اللبنانية ولم تجيد رسم الشخصية السورية، ولا حتى اللبنانية، وما قدمته حل لمعادلة لا تعرف شروطها الابتدائية.
(القدس العربي)