«المحلّي والكوني في الرواية التونسية»

في إطار مهرجان ينابيع الإبداع، الذي يُقام في المركّب الثقافي لمدينة الكاف (الشمال الغربي التونسي) انعقدت ندوة فكريّة موسومة بـ»الرواية بين المحلّيّ والكونيّ» نسّق أعمالها الجامعي فتحي فارس، مدعوما بجهود المشرف على المركّب الثقافي نعمان الحباسي.
وقد جرى هذا النشاط البحثيّ على امتداد يومين (20 و21 مايو/ أيار2017) عُقدت فيهما جلستان علميّتان وطاولة مستديرة دار فيها الحوار حول «سؤال الخصوصيّة في الرواية في تونس» شاركت فيه نخبة من الروائيين ومجموعة من الباحثين والقرّاء.
رأس الجلسة العلميّة الأولى عبد الدائم السلاّمي وحاضر فيها كلّ من شفيع بالزين ومراد الخضراوي والباحث فتحي فارس ومنجيّة عرفة منسيّة. أمّا الجلسة الثانية فقد رأسها سمير السحيمي وحاضر فيها كلّ من منية عبيدي وصالحة الحيّوني وخديجة الفضلاوي والباحث أحمد رضا حمدي. وقد نوّهت الجلستان بأهميّة المسألة المطروحة وسجّلتا عمق المداخلات المقدّمة وتنوّعها على نحو أضاء موضوع الندوة من جهات مختلفة.
ورغم طرح المسألة في ملتقيات سابقة، كانت للبحوث المقدّمة إضافاتها من جهتيْ المقاربات المتنوّعة والنصوص الروائيّة المعتمدة متونا؛ فكلّها حديثة لا تتجاوز السنوات الخمس من صدورها، وجلّها يُدرَس لأوّل مرّة. فمن النصوص المدروسة رواية «وقائع ما جرى لذات القبقاب الذهبيّ» لإبراهيم الدرغوثي ورواية «عشيقة آدم» للمنصف الوهايبي، ورواية «الكيتش» لصافي سعيد، ونصّ «أرصفة الضباب» لمنيرة الدرعاوي، و»ليلة التأبين» لأنيس العبيدي، ورواية «من الجراح لقاح» لخديجة التومي ونصّ «أحباب الله» لكمال الشارني. وهي نصوص تمثّل فسيفساء تشكيليّة بين المحليّ والكونيّ، جعلها الباحثون متونا للنظر في ثنائيّة الندوة تناولوها بأقلام متعدّدة، ونظروا إليها من زوايا مختلفة تجتهد في إبراز الوجوه المحليّة والخصوصيّة من جهة، وتجليّات الكونيّة من جهة ثانية. فكانت الهوية، واللّغةِ والخطاب، والجمال والواقع المحلّي مداخل إلى النصوص الروائيّة المدروسة، وإلى تعرّف الذات العربية المعاصرة، وهي تقبض على أصالتها وثقافتها من جهة، وتنفتح في الوقت ذاته على الجديد في الفن والحضارات من جهة ثانية.
وبيّنت مختلف المحاضرات أنّ مسألة المحلّي والكوني في الإبداع الروائيّ، يمكن أن تُقارَب من جهة جماليّة إنشائية، ومن جهة مضمونيّة، ومن جهة سيميائيّة ثقافيّة، ومن مدخل أنثروبولوجيّ ومدخل فنيّ، ومدخل هوويّ أيضا.
وقد تكاملت هذه المداخل المتنوّعة وتعاضدت المقاربات المتعدّدة، في إبراز غنى هذا المبحث في الرواية التونسية المعاصرة. تجدر الإشارة أيضًا إلى تنوّع منطلقات الباحثين من الرؤية الكونية إلى الواقع المحلي، لتذهب إلى تفاصيل اليومي والبيئي والمَعيش؛ إذ كشفت البحوث أنّ الروائيّ العربي لا يهجر واقعه، فالواقع المَعيش والبيئة المحيطة يبقيان مصادر استلهام وتأمل ومعالجات مستمرة، لكنّه وإن كتب أعمالًا مُغرِقة في الهوية المحليّة أحيانا، فإنّ تلك التجارب شملت في الوقت ذاته محاولات انفتاح على إضافات معاصرة في الشكل والمضمون على حد سواء.
وبين الخصوصيّة والكونيّة يتربّع التجريب السردي، إذ تتكئ الأعمال الروائيّة على جرأة الفن لتتطلع نحو الخروج من الأطر، وارتياد آفاق الكونيّة عبر تجريب أشكال جديدة في الكــتابة الروائيّة، مثلما يبرز في رواية الدرغوثي «وقائع المرأة ذات القبقاب الذهبيّ».
أمّا من زاوية خصوصيّة المضمون، فقد أسفرت البحوث عن تنوّع كبير في التجارب الحياتيّة المتخيّلة، التي استلهمت مضامينها وأشكالها من المصادر الرئيسية للهوية العربية، ومن الهويات والبيئات المحلية كبيئة الصحراء والجريد، والشمال الغربيّ التونسيّ. تجمع بين الكثير من هذه التجارب محاولات فنيّة، عميقة لإعادة تعرف الذات داخل الأطر الهوويّة الأوسع، في دلالة على بحث الروائيّ التونسي عن إيجاد التوازن وسط المتغيرات والمتناقضات.
ولم تغب قسوة الواقع وما تخلقه الصراعات والأزمات المعاصرة من آثار مأساوية على الشعوب والأفراد عن تجارب الروائيين، ورغم كل ذلك، فإن هذه الفسيفساء للهويات التشكيلية المشاركة في تلك الورشة، وإن استغرقت في المحليّ والثقـــافي الجغرافي، إلا أنها تشكل في مجموعها خطابًا روائيّا كونيًّا، عابرًا للهويات المحلية وللحدود الجغرافية، ومحاوِرًا الإنسان أينما كان، وأيّما كان. وخلصت الندوة إلى بعض التوصيّات المهمّة ترتبط بقدرة الرواية العربيّة على معانقة الكونيّة شريطة أن تتوفّر لها وسائل ذلك على غرار الترجمة إلى اللغات العالميّة والتوزيع الذي يوصلها إلى القارئ حيثما كان.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى