رحلة معاصرة لاستكشاف خصال النديم في حضرة الملك
عبد الله مكسور
جمال باكير كاتب ومخرج ومنتج وباحث في التراث العربي والفن الإسلامي، صدرت له رواية تاريخية بعنوان “أميرات منسيات”، تناول في صفحاتها عوالم عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين، وفي كتابه الجديد الذي وسمه بعنوان “المنادمة والنديم، رسالة إلى صاحب الجلالة في أدب الملوك”، يطوف جمال باكير في مسارات متنوعة جامعاً كل ما يتعلَّق بتفاصيل المنادمة والندماء، فلا يمكن لقارئ كتب التراث العربي إلا أن يمر دائما على كلمات مثل منادمة ونديم، في إطار مسل ومشوق، حيث كانت المنادمة مجالسة تثقيفية ترفيهية محترفة ووظيفة قائمة بذاتها.
لكن في الوقت ذاته هنالك شح في الكتب المخصصة للحديث عن الموضوع؛ إذ لم يصلنا من تلك المخطوطات إلا كتاب واحد هو “أدب النديم” لكشاجم، والمعلومات الباقية كلها متفرقة على شكل أبواب في كتب
أخرى كباب المنادمة في كتاب “التاج في أخلاق الملوك” وغيره من الكتب خاصة كتب أدب الملوك. دفع العزوف أو ندرة الاشتغال بهذا الحقل ضيفنا إلى التوغُّل في عوالمه الخاصة باحثاً وجامعاً ما يتعلّق بالمنادمة والندماء.
عن بناء فصول الكتاب يقول جمال باكير إنه عمد إلى جعل العمل كدليل إرشادي معاصر عن المنادمة والنديم، فبدأ بمقدمة تشرح سبب تأليف الكتاب وتعطي لمحة عن كُتب أدب الملوك في التراث العربي وأسباب تأليفها وأبرز مؤلفيها وأبرز الملوك الذين أُلّفت تلك الكتب كإهداء لهم. ثم قسمه إلى سبعة فصول من بعد المقدمة: تعريف المنادمة والنديم لغويا وتاريخيا، أدوار ووظائف النديم، مؤهلات النديم، آداب المنادمة، هيئة النديم، حقوق النديم، وأهم كتب التراث وعلاقة مؤلفيها بأهل السلطة في عصرهم.
قالب الرسالة
فصول الكتاب تم دمجها كما يقول باكير بطريقة الإيحاء بأنّ هذا المؤلف يندرج في إطار الرسالة الأدبية، فضيفنا يحب تجريب وإحياء القوالب الأدبية المندثرة أو غير التقليدية، كما يسعى إلى تناول مواضيع مهمشة أو استثنائية، لهذا أتى الكتاب تماماً كالرسائل التي تُكتب للخلفاء والملوك قديماً كإهداءات لهم.
عن الآليات التي اعتمدها باكير في بناء الكتاب، يقول إن لجوءه إلى قالب الرسالة الأدبية أتاح له بعض المرونة، فموضوع المنادمة والنديم ينتمي إلى صنفين أدبيين في التراث العربي -ويقابل الصنف الأدبي في الإنكليزية “Genre”-: صنف “أدب الملوك” حيث تظهر شخصية النديم كأديب وجليس مؤانس، له أدوار تثقيفية وترفيهية محترفة لدى النبلاء، ومستشار ومرافق لهم في السفر ورحلات الصيد، وصنف أدبي آخر يُعرف بأدب “الخمريات”، حيث يظهر النديم كصديق في مجلس الشراب. ولأن الرسالة موجهة للمقام السامي، كان جوهرها قائماً على صورة النديم في إطار أدب الملوك، أي كموظف في البلاط الملكي.
يتابع باكير أن المقصود من الرسالة الأدبية هو أن يقول المؤلف ما يريد قوله وفق الرؤية التي رآها مناسبة، وما قد يكون مثار اهتمام الطرف المُهدى إليه، وليس ما يتوجب أن يحتويه موضوع الكتاب، فهو ليس دراسة أكاديمية إنما هو بحث أدبي يتشابه ببعض النواحي مع المقالة الطويلة، هذا البحث الأدبي تم ترصيعه من حين إلى آخر بفوائد سلطانية لها علاقة بإدارة الحكم، بحيث يشمل الكتاب أجمل ما ورد في أدب الملوك، ولا يقتصر فقط على تقاليد المنادمة.
الجانب التوثيقي التاريخي هنا ليس موضع الاهتمام في مقابلة الأفكار والحكايات والقصص التي يتم شرحها في كل فصل، فالمتعة الأدبية وِفق قالب الرسالة هي محور التركيز دائما إلى جانب الفكرة ذاتها قبل تاريخيتها وتوثيقها.
مواصفات النديم
عن مواصفات النديم المؤثر يؤكد الكاتب أنه لا بد أن يحمل هذا النديم أربع خصال أساسية؛ الثقافة الموسوعية التي يستطيع أن يُثقف بها الحاكم أو الوزير أو النبيل أثناء المجالسة، فيفيده بها ويسليه في الوقت نفسه، وهي تشمل بشكل خاص الأدب شعرا ونثرا، والتاريخ وأخبار الملوك والدين والنكت والقصص وغيرها من فنون القول، بالإضافة إلى الأخلاق الراقية وأبرزها الظرف والفطنة والكياسة والبشاشة والإخلاص والكرم، إلى جانب امتلاكه قدرات ترفيهية كلعب الشطرنج أو عزف الموسيقى والغناء والقدرة على المرافقة في السفر ورحلات الصيد، فضلا عن الميزة الرابعة القائمة على حسن الهيئة وأناقة المظهر.
يستحضر ضيفنا هنا عصر هارون الرشيد الذي شهد بروزا كبيرا للندماء في عصره، حيث قام الرشيد بمأسسة المنادمة داخل البلاط وبالتالي أسهم بشكل كبير في إنعاش الحراك الثقافي في ما يتعلق بالآداب والعلوم والفنون، وكذلك هو أول من صرف الرواتب للندماء اللاعبين وبالتالي أنعش القطاع الرياضي، وكذلك الحال في عصر المتوكل حيث قرّب الندماء كثيرا وبوّأهم مكانة مرموقة في فترة حكمه.
عن تأثير النديم على سياسة الحاكم وقراراته تاريخيّا يقول ضيفنا: إن تاريخ المنادمة هو الجزء المخفي من التاريخ، إنه التاريخ الموازي لما وصلنا أو حدث في ذلك الوقت، فالنديم بوصفه أديباً وجليساً محترفاً ومستشاراً ومرافقاً ومؤانساً، يعد بمثابة “وزير من دون صلاحيات”، وهو كما يراه ضيفنا لعب دوراً غير مباشر في بلورة توجّهات الحكام، لأن النديم يساهم في تشكيل وعي الحاكم من خلال ما ينقل إليه من معارف أدبية ودينية وعلمية وتاريخية وأخبار الناس أثناء المجالسة، وبالتالي هو يرسم له صورة عن العالم، ويتصرف الحاكم ضمن إطار هذه الصور التي يتلقاها من ندمائه ومن غيرهم.
وبقدر ما يكون النديم محبوباً وموثوقاً لدى الحاكم تكون آراؤه وأفكاره وقراراته نافذة على الأرض لكن على لسان الحاكم، فعندما يصدر القرار من البلاط يُنسب دائما للملك أو للحاكم ولكن لا يعرف الناس عادة أن هذا القرار قد كان في الكثير من الأحيان بإيحاء وتأثير مباشر أو غير مباشر من الندماء، يضرب ضيفنا مثالاً على ذلك قصة الأديب ثمامة المعتزلي نديم المأمون الذي أقنعه بمذهبه في الاعتزال، وأشار عليه بجعل المذهب مذهبا رسميا للدولة العباسية في عصره، حتى وصفه المأمون بأنه “يتصرف مع القلوب تصرف السحاب مع الجنوب”، وفي هذا إشارة إلى مدى قدرته على التأثير عليه.
يتابع جمال مقتبساً من المصادر “علا شأن ثمامة في أيام المأمون، فكان عنده فوق الوزراء، وقد أراده المأمون أن يكون وزيراً له، فأبى وقال: ‘إني لم أر أحداً تعرض للخدمة والوزارة إلا لم يكن لتَسلَمَ حالُه ولا تدوم منزلته’، فقبل المأمون منه ذلك، وقال له: ‘فأشر عليّ برجل صالح لما أريد’، فأشار عليه بأحمد بن أبي خالد الأحول، فلما مات أحمد بن أبي خالد عاد المأمون فأراد ثمامة على الوزارة فأبى، فاستشاره فيمن يصلح، فنصحه بيحيى بن أكثم. ولثمامة في مجالس المأمون الكثير من المناظرات المحفوظة في كتب الأدب”.
هذه الاشارات الموجودة تاريخيّا تدلّ بشكل أو بآخر على مكانة النديم إذا حاز الخصال التي تدفع به دوماً إلى جانب الحاكم باعتبارها بوابته للبقاء في الدائرة المقربة.
(العرب)