تنهار الدول فيكثر المنجمون والأفاقون والمتفقهون
![](/wp-content/uploads/عبد-الوهاب-الرامي.png)
فيصل عبد الحسن
قبيلة “آل برغوط” التي تناول سيرة أفرادها، عبدالوهاب الرامي في روايته “تَلُّ الخُزامى” ذكرتنا بإمارة أمازيغية تدعى “بورغواطة” أقيمت في القرون الوسطى على الساحل الأطلسي للمغرب بين مدينتي آسفي وسلا بقيادة طريف المطغري (744 – 1058).
في روايته الجديدة “تل الخزامى” الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عدد يناير 2017 يتناول الكاتب حياة القبيلة، التي عاشت في عزلة عن العالم بجبال الأطلس، خلال الفترة التي سبقت نزول الديانات التوحيدية الثلاث.
صفحاتها تنقل القارئ إلى عالم مدهش من الأحداث والعادات والأساطير والخرافات العجيبة والطقوس، التي مارسها أولئك المغاربة في تلك البقعة المعزولة عن العالم.
الزواج الفردي
نظمت القبيلة حياتها وفق مواردها الشحيحة من المطر والعشب والطعام، فمنعت الزواج على نصف أفرادها باتّباع النظام الفردي بالزواج. الابن الأول من حقه الزواج أما الثاني، فيقضي حياته عَازِبا، وكذلك فتيات القبيلة. حياة القبيلة يديرها مجلس للشيوخ، والمجلس يدار بما يقرره مفسرو الأحلام، لما يحلم به أفراد القبيلة.
السحر والطقوس الغريبة هي الشائعة بين أفرادها. والقبيلة تعيش حياة بدائية على الزراعة والصيد. ولكن الصراع على أشدِّه بين شيوخها على الجاه والمال والسلطة في القبيلة. فيختلط دواء حكيمتهم “سعالة” بما تضعه أيضا من سموم لقتل كل من يخالفها الرأي أو يريد أن يدحض ما وضعته من أساطير، لكي تحكم بها القبيلة.
عالم بدائي لكنه حمل في مفرداته دلالات واضحة عما تعيشه مجتمعاتنا الحالية من عوامل صراع وفرقة. وكأن صاحب الرواية ينقل لنا صورة الحياة اليوم، والعالم يعاني من الإرهاب بسبب الفكر المتطرف، وما تعيشه أغلب مجتمعاتنا من سفك دماء بسبب أفكار خاطئة، وأطماع بالسلطة والجاه والمال.
يقول عبدالوهاب الرامي لـ”العرب” عن روايته الجديدة “عندما تنهار الدول يكثر المنجمون والأفاقون والمتفقهون والانتهازيون وتعم الإشاعة وتطول المناظرات وتقصر البصيرة ويتشوش الفكر”. (ابن خلدون). وبهذه المقولة ذات الواقعية القاتمة صدّرت رابع عمل سردي لي، بعد رواية “سنة بين القطارين” 1993 و”الموظف” 1996 و”أشواق متأخرة” بالفرنسية 2008. و”تلُّ الخُزامى” نشرت 2017 ضمن “سلسلة الإبداع العربي” عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
ويضيف الرامي “تبدأ الرواية بولادة ‘حنيشة’ بشعر أخضر برسيمي، لتتطور الوقائع انطلاقا من هذا “الحدث الجلل” في عُرف قبيلة آل برغوط، التي أقامت له بالمناسبة “ليلة التحصن”، وهي ليلة دعا إليها مجلس القبيلة لرد الشرّ والبلية، كما دأبه في الحالات الخارجة عن نواميس الطبيعة.
وسيكون هذا الحدث سببا في انقسام مجلس الشيوخ، وتباعد الرؤى والتصورات والظنون، وإيقاظ الكثير من الأطماع النائمة، تحت ذريعة التقرب من “واهب الكرامات” الجد الأعلى للبراغيط.
ولكن المطامع الشخصية لا تبني مجدا جمْعيا وحضاريا كما يستنبط من غمزات التاريخ. وتنتهي الرواية إلى واقع جديد، يبدو وكأن يدا خفية تصوغه بمهارة فائقة. وتبدو الرواية، وكأنها فيلم جاهز للتصوير، حول وقائع تعيشها، عبر ارتجاجات مختلفة، قبيلة خارج التاريخ (آل برغوط)، لكن فعل التاريخ بالمنظور الخلدوني حاضر فيها ما دام العمران وانهياره يشكلان صرحين أساسيين من صروح الوجود الإنساني”.
ويوضح الرامي “تتبدّى الأسطورة في ‘تَلُّ الخُزامى’ كأهم عنصر يؤسس لامتلاك السلطة سواء على المستوى الشخصي أو الجمعي، كما أن تهلهل الأسطورة يفسح المجال لتبرعم أساطير جديدة تترصّدها، هي نفسها أساطير تخرُج من رمادها أوضاع مغايرة. وربما هذا ما حدا، لوضعي بيتي أبي البقاء الرندي الشهيرين: لكل شيء إذا ما تمّ نقصــــانُ / فلا يُغرُّ بطيب العــيــش إنسانُ // هي الأمور كما شاهَدْتُها دُوَلٌ / من سرّهُ زَمنٌ ساءتهُ أزمــــانُ، كتصدير ثانٍ للرواية”.
وتُظهر أحداث الرواية أن انهيار الكيانات (مجلس شيوخ القبيلة في الرواية) يتخذ منحى لا سبيل للرجعة فيه، وأن الطبيعة البشرية تساهم فيه بشكل حاسم. ولهذا فحين تظهر نُذُر الانهيار، لا تجدي كل الاستراتيجيات المرصودة لصدّه، أساسا بفعل العامل البشري، الذي لا يمكن ضبط متغيراته الداخلية والخارجية، التي تتأثر بإغراءات الحياة، وعلى رأسها ثالوث الجنس والمال والجاه”.
هضبة الشوك
ويبدو أن هاتين المصوغتين اللتين رفعهما عالم الاجتماع العربي الأول ابن خلدون، والشاعر الرندي إلى مقام القانون الأزلي: طرحهما الرامي في روايته، عبر بناء فني محكم، ولغة شعرية، لا تخلو من مكر وغواية أدبيين، على بساط التخييل، للاقتراب من مفاعيلها، وأحابيلها، وألاعيب شخوصها الماكيافيلية. حيث تختلط -بشكل قاهر- الغاية بالوسيلة، والحس الجماعي بالنزوات الفردية، والتسلط بالتسلط المضاد، والأسطورة بنقيضها.
رواية الرامي تبدأ بكذبة عن شعر رأس الوليدة “حنيشة” الأخضر، وتنتهي بموت “سعالة” طبيبة القبيلة وحكيمتها، منتحرة بإحدى إعشابها السامة. وخلال ذلك نعيش نكبة مرقوب والد حنيشة وأمها ريعانة، التي قضت بسم عشبي من يد الحكيمة “سعالة” أيضا. وتنفي القبيلة والد “حنيشة” مرقوب إلى “هضبة الشوك” المكان النائي، الموحش، بعيدا عن القبيلة، لاتهامه بالتجديف، وعدم تصديقه لأساطير القبيلة وخرافاتها.
ويكشف “شهلب” وهو شيخ معارض دائما لأساطير “سعالة” حيلتها بتحويل شعر رأس حنيشة إلى اللون الأخضر، وذلك بفعل عشب كانت تسقيه لريعانة الأم أثناء الحمل غَيَرَ من لون شعر الوليدة إلى اللون الأخضر المزرق.
فهل “تَلُّ الخُزامى” هي رواية تأمل وجودي؟ أم طرح أنثروبولوجي سياسي اجتماعي؟ أم سبر للذات في نزوعها السلطوي؟ في حقيقة الأمر أنَّها تضيء التاريخ من خارج التاريخ. رواية تاريخانية العلاقات الإنسانية، تؤرخ الخيانات المتتالية.
يقتل فيها الدهاء أكثر مما قد ينثره حد السيف من دم وأشلاء. رواية انتقام ذوات وتلاجج هويات، وكشوفات الزوايا المظلمة، والأسرار الغامضة، التي تؤذن بانهيار الصروح، وإعمال الإزميل في الجروح. حَكَى الرامي من خلال سِّيرة قبيلة مغربية عاشتْ خارج التأريخ أحداثا معاصرة.
“تَلُّ الخُزامى” بمقدار أو بآخر، هي كل ذلك. ولما حملته أيضا من مضامين إنسانية عميقة عن الحق والعدل، والوقوف في وجه التطرف، والظلم والخرافات والأكاذيب، التي تسود العالم في فترات مظلمة من التأريخ”.
(العرب)