فيلم «ذات يوم في الأناضول» لنوري جيلان: رحلة تأملية في أعماق النفس البشرية

نسرين علام

«أنظر إلى الليلة كقصة، عندما تصبح جدا يمكنك أن تقص ما دار الليلة على أحفادك… يمكنك أن تبدأ هكذا ذات يوم في الأناضول، تعامل مع الأمر كحكاية»، هكذا يقول أحد شخصيات فيلم «ذات يوم في الأناضول» (2011) لنوري بيلغي جيلان، بينما يقف متأملا تلال الأناضول الممتدة والليل الطويل.
يوحي العنوان برحلة تبحر في الخيال، أو تحملك على أجنحة طيور أسطورية فوق تلال الأناضول الممتدة، ولكن الرحلة التي يصحبنا فيها جيلان رحلة تأملية، رحلة ليست لاكتشاف المكان، ولكن لاكتشاف الذات ولسبر أعماقها، رحلة يواجه المرء فيها ذاته ويواجه الأسرار الدفينة في نفسه. يصحبنا جيلان في رحلة تدور في ليلة وصباح، ويبدأ بنا الطريق فيها من عدم المعرفة وعدم الرؤية إلى الكشف والفهم.
تبدأ مشاهدتنا للفيلم عبر زجاج تكثف عليه بخار الماء ولطخته الأتربة في مقهى صغير في محطة للتزود بالوقود في مكان يبدو شبه مهجور. نرى عبر الزجاج ما يبدو كمشادة بين ثلاثة أشخاص، ولكننا لا نسمع ما قيل في الداخل ولا نرى ما يحدث بوضوح. هي رحلة يكتنفها الغموض منذ البدء إذن. ولكن هذا الغموض لا يأتي من كون الفيلم يندرج ضمن ما يعرف بالدراما البوليسية، رغم أن شخوصه من أفراد الشرطة والادعاء. يتضح أن ما شاهدناه عبر الزجاج، هو مشادة أدت إلى مقتل أحد الشخوص الثلاثة في المقهى. اعترف القاتل بجريمته، ولكن قافلة بحث مكونة من ثلاث سيارات انطلقت في ليل الأناضول عبر أراضيها الشاسعة ليقود القاتل الشرطة إلى الموقع الذي دفن فيه جثمان القتيل. ولكن التشابه بين فيلم جيلان وأفلام الدراما البوليسية يقف عند هذا الحد، فالبحث عن الجثمان هو البحث الظاهري، أما الرحلة الحقيقية والكشف الحقيقي فيأتي من التوغل في شخوص فريق البحث داخل ذواتهم، ومن ذلك الحديث على جانب الرحلة بين الشخصيتين المحوريتين: مسؤول الادعاء نصرت (تانر برسل) وطبيب الطب الجنائي الدكتور جمال (محمد أوزونر).
يحاول القاتل، الذي يبدو أنه كان مخمورا وقت ارتكاب الجريمة، تذكر موقع دفن الجثمان، ولكن الامتداد المهيب للتلال متشابه في تضاريسه، والأمر ملتبس في ذاكرته. يمضي فريق الشرطة الليل على الطريق باحثا.
هو فيلم يلعب فيه الانتظار والحديث دور البطولة، ولكن الحديث في الفيلم ليس من قبل الثرثرة وليس من قبل تمضية الوقت في الأحاديث المتناثرة. في سيناريو محكم بالغ التأثير، كتبه نوري جيلان بالتعاون مع زوجته إيبرو جيلان وإركان كيسال، تأتي كل كلمة والتفاتة ونظرة ولها ثقلها ومغزاها.
«ذات يوم في الأناضول» فيلم مهيب عظيم فيه من الإنسانية والتأمل الكثير، ولكنه فيلم متَطَلِب، فيلم لا يسعى لإرضاء أولئك المتعجلين الساعين لمشاهدة فيلم سهل هين عن العثور على القتيل الذي ضاع قبره. هو فيلم يكشف عظمته وبهاءه لمن يبحث عن جوهر الأشياء وليس مظهرها. رغم تشابه الاسم مع ذلك الفيلم العظيم الآخر لسرجيو ليوني، إلا أن فيلم جيلان لا يذكرنا بليوني، ولكن يذكرنا بإنسانيته وفهمه لنوازع النفس البشرية، بقصص أنطون تشيخوف. ثم تأتى ما أظنها لحظة الكشف في الفيلم، لحظة التجلي التي تسمو فيها الإنسانية. يضني البحث فريق الشرطة المجهد من السفر ليلا، فيقرر الفريق الذهاب إلى منزل عمدة بلدة صغيرة على الطريق للراحة ولتناول الطعام. هناك تتجلى لهم ببهائها، إنها جميلة ابنة العمدة، جميلة هي كاسمها، ملائكية الجمال بوجهها المضيء الذي ينير المكان. إنها سطوة الجمال والبراءة، ذلك الجمال الذي يكاد يقارب القداسة، التي تحدث تغييرا كبيرا في الجميع. ينظر الجميع إلى جميلة في دهشة تصل إلى الخشوع. وساعتها نرى تبتل الجميع لقداسة الجمال وسطوته، حتى القاتل يتخلى عن وجهه العابس الخالي من التعابير، لينتحب ويذرف دموعا لم يكن يتوقع أن يذرفها.
بعد اللقاء القصير مع الجمال المجسد في جميلة، يكشف القتيل للفريق عن دافع الجريمة التي كانت تبدو بلا دافع، ويقود الفريق إلى موقع الجثمان. وبعد اللقاء بجميلة، يغوص مسؤول الادعاء في ذاته، متذكرا تلك القصة الأخرى في حياته، قصة تلك المرأة الجميلة الأخرى التي رحلت في ريعان شبابها، والتي يحاول أن يتغافل عن دوره في رحيلها. وبعد الليل الطويل بحثا يعود الطبيب هو الآخر للبحث في صور ماضيه، الذي كان يأمل فيه الكثير، ولكنه اكتفى بعمله الصغير في القرية الصغيرة. كما يتذكر تلك المرأة الجميلة الأخرى التي كانت زوجته، والتي انتهى زواجه منها بالطلاق. إنه الحديث الكاشف والنظرة الكاشفة دوما التي تؤدي إلى التعمق في الذات ومواجهتها. إنه فيلم يبرز فيه جيلان براعة وثقة إخراجية وحسا مرهفا كتابة. تذكرنا تلك المشاهد لتلال الأناضول الممتدة بذلك الطريق الممتد في «ستحملنا الريح» لعباس كياروستمي.
يعود فريق البحث إلى المستشفى لتشريح جثمان القتيل. لا نرى عملية التشريح :::ذاتها، ولكننا نسمع وصفا دقيقا لها، بينما يملي الطبيب ما خلص إليه إلى الموظف الذي يدون مجريات القضية. الأمر يبعد كل البعد عن تلك المسلسلات التي تحاول كشف أسباب وفاة الضحية. على يد جيلان يتحول الأمر إلى لمحة كاشفة عن أننا جميعا بهذه الهشاشة، بهذه المكونات التي يجمعها جلد ودم، وحياة قصيرة سريعة العطب والانتهاء. أثناء التشريح تسقط قطرة من دماء القتيل على وجه الطبيب يحاول محوها، ولكنها تبقى هناك. يسلط جيلان الكاميرا على هذه القطرة الصغيرة من الدماء، كأنما يريد أن يذكرنا أننا كلنا بهذه الهشاشة. ولعل ذلك الحس الإنساني المرهف لجيلان يتبدى واضحا جليا في ذلك المشهد قرب نهاية الفيلم عندما نتأمل حياة الطبيب وآماله العريضة تتبدى لنا على الشاشة، على هيئة صور فوتوغرافية تملأ الشاشة: صور في الطفولة، صور وهو في صباه، صور في أوج شبابه وسيما ضاحكا، وصوره معها تلك التي كان يحبها. ثمة ما يثير الشجن ويبكينا حزنا ونحن نرى هذه الصور. إنها ليست حياة الطبيب فقط التي تمر مسرعة أمام أعيننا، فنحن نتذكر أن حياتنا أيضا تمضي في ومضات سريعة وفي خيبات متكررة.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى