أخيرا .. خيري دومة يعثر على رسالة لطيفة الزيات للدكتوراه
محمد الحمامصي
يقدم الناقد والمترجم د. خيري دومة للمرة الأولى إحدى دراسات الترجمة الباكرة المكتوبة بالعربية، هي دراسة لطيفة الزيات حول “حركة الترجمة الأدبية من الإنجليزية.. إلى العربية في مصر في الفترة ما بين 1882 – 1925 – ومدى ارتباطها بصحافة هذه الفترة”، وهي رسالة الدكتوراه التي كتبت بالعربية، ونوقشت بقسم التحرير والترجمة والصحافة، بكلية الآداب جامعة القاهرة عام 1957.
وكشف دومة في مقدمته للعمل الصادر عن المركز القومي للترجمة كيف تسنى له العثور على هذه الدراسة موضحا الخلل الذي يعتري الجامعات والثقافة العربية، قال “إن قصة العثور على نسخة من هذه الرسالة، ربما تشير إلى ما تواجهه ثقافتنا العربية الحديثة من نقص مرعب في المعلومات البديهية والأولية؛ فقد عرفت بأمر هذه الدراسة لأول مرة من كتاب أستاذي الكبير الراحل عبدالمحسن طه بدر “تطور الرواية العربية الحديثة في مصر” وهو الآخر كان رسالة دكتوراه صدرت في صورة كتاب لأول مرة عام 1963، وقد اعتمد فيه عبدالمحسن طه بدر اعتمادًا كبيرًا على رسالة لطيفة الزيات المخطوطة في مكتبة جامعة القاهرة، خصوصًا في الفصل الكبير المهم الذي عقده لما أسماه “رواية التسلية والترفيه”.
وأضاف “عبثًا بحثت في كل اتجاه عن احتمالية أن تكون رسالة لطيفة الزيات هذه قد نشرت في كتاب، نظرًا لأهميتها ولمرور وقت طويل على إنجازها، ولما لم أعثر لها على أثر بين الكتب المنشورة بحثت في مكتبة جامعة القاهرة، ومكتبة كلية الآداب، ومكتبة قسم اللغة الإنجليزية، القسم الذي كنت أظن أنها حصلت منه على الرسالة، وسألت تلاميذها وزملاءها المقربين في آداب القاهرة، وفي بنات عين شمس حيث كان مقر عملها لسنوات طوال، وطرحت السؤال على أصدقاء الفيس بوك. قيل لي: من المؤكد أنها كتبتها بالإنجليزية، وقيل لي: من المرجح أنها حصلت عليها من إحدى جامعات إنجلترا، وعبثًا حاولت، إلى أن اقترح علي أستاذي العزيز وتلميذها المقرب د. سيد البحراوي أن أسأل واحدًا من القريبين إلى جيلها وممن عاصروا الفترة التي نوقشت فيها رسالتها، د. محمد عناني المترجم الكبير والأستاذ بقسم اللغة الإنجليزية. وجاءتني الإجابة أخيرًا من الأستاذ الكبير: إنها حصلت على رسالتها من “معهد الصحافة العالي”، المكان الذي التقت فيه برشاد رشدي وتزوجته”.
وأوضح دومة “في قسم اللغة الإنجليزية بآداب القاهرة الذي تخرجت فيه لطيفة الزيات عام 1946، وفي كلية البنات جامعة عين شمس التي عملت فيها سنين طويلة، لم أعثر للرسالة على أثر، ولم يستطع أحد أن يحدد ما إذا كانت الرسالة مكتوبة بالإنجليزية أم بالعربية. في مكتبة جامعة القاهرة أيضًا لم أعثر للرسالة على أثر بين رسائل قسم اللغة الإنجليزية أو كلية الآداب، وإنما وجدتها أخيرًا بين رسائل كلية الإعلام، التي ورثت قسم الصحافة بكلية الآداب، الذي كان قد ورث بدوره معهد الصحافة العالي.
كانت المفاجأة أن الرسالة مكتوبة بالعربية، وأن لطيفة الزيات لم تحصل عليها كما تصورت أنا من قسم اللغة الإنجليزية الذي تخرجت منه عام 1946، ولم تحصل عليها من انجلترا كما تصور آخرون، وإنما من قسم التحرير والترجمة والصحافة بكلية الآداب جامعة القاهرة عام 1957. وكانت المفاجأة الأكبر هي مساحة المعلومات الببليوجرافية المفيدة، والجهد البحثي والتحليلي الذي تكشف عنه هذه الدراسة الباكرة في تاريخ الترجمة من الإنجليزية إلى العربية”.
وأشار إلى أنه بعد أن عثر على النسخة الورقية من الرسالة، حصل من مكتبة الجامعة على نسخة مصورة بصيغة بي دي إف، وقال “كانت المشكلة أن الرسالة مطبوعة بطريقة الاستنسل القديمة بحيث يصعب جدا أن تتعرف على الحروف والكلمات، وخصوصًا في النصوص والهوامش المكتوبة بالإنجليزية. وقد بذلنا جهدًا مهولاً في تحرير النص، لتحويل هذه النسخة المتهالكة من الرسالة إلى نسخة وورد مقروءة، بعد فك طلاسم الكلمات والعبارات وأسماء الأعلام غير الواضحة وغير المعروفة أحيانًا.
وللأسف فقد ظلت بعض هذه المعلومات غير مشروحة حتى النهاية، بسبب صعوبة قراءة النص، وعدم التمكن من الوصول إلى الصورة الصحيحة لاسم بعض الكتاب أو عناوين الكتب، وبعضها قديم وغير معروف حتى في الأدب الإنجليزي، ومن ثم فقد ذهبت هنا كل محاولات التخمين هباء”.
هذا جزء بسيط من المعاناة التي عاناها د. دومة الذي أكد أن شهرة لطيفة الزيات مبدعة وكاتبة ومناضلة سياسية طغت على عملها العلمي والبحثي، خصوصًا المتعلق بحركة الترجمة ومكانتها في سياق الثقافة العربية الحديثة.
وقال “لمن لا يعرف، فقد ولدت لطيفة الزيات في الثامن من أغسطس/آب عام 1923، وتوفيت في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عام 1996، وبين هذين التاريخين شقت طريقًا طويلا وصعبًا لها ولكتابة المرأة العربية ومكانها في التاريخ العربي الحديث، وارتبط اسمها بحركة النضال الوطني في مصر، خصوصًا في جناحه اليساري. وهو النضال الذي صار موضوعًا لروايتها الشهيرة “الباب المفتوح” عام 1960.
وحول الدراسة أشار دومة إلى أن لطيفة الزيات حين سجلت لموضوعها في يناير عام 1953، ثم كتبت دراستها وحصلت بها على درجة الدكتوراه في يوليو/تموز 1957، لم تكن دراسات الترجمة قد ازدهرت على النحو الذي نراه اليوم. ولم يكن بين يدي القراء العرب بحوث علمية حول حركة الترجمة أو تاريخها. لم يكن لدى القراء سوى دراسات ثلاث، كلها صدرت في السنوات العشر السابقة على دراسة لطيفة الزيات. ولم تكن هناك دراسة واحدة تركز على الترجمة الأدبية بكل ما مثلته من تحول في الثقافة العربية الحديثة، وبكل ما تركته من آثار في الأدب العربي الحديث بموضوعاته وأشكاله وأساليبه.
ولفت إلى أن هذه الدراسة كانت تحرث أرضًا بكرًا، وتتبين خطوطًا أولية غير واضحة في حركة الثقافة العربية الحديثة، وبشكل خاص في حركة الأدب العربي الحديث وتحولاته، انطلاقًا من تحول في الحاضر مثلته حركة التحرر السابقة والمواكبة لثورة يوليو/تموز عام 1952، وكأنما كانت الباحثة الشابة لطيفة الزيات، وهي من هي في حركة اليسار المصري في الأربعينيات، تنطلق من موقع أيديولوجي واضح، وتنظر من خلاله إلى التاريخ الثقافي المصري الحديث، لا لتكتفي بمجرد رصد المعلومات الببليوجرافية الخاصة بحركة الترجمة الأدبية، على أهمية هذه المعلومات في ذاتها، وإنما أيضًا لتستكشف التحولات الاجتماعية والثقافية الكبرى.
ولعل هذا يفسر بعض الجوانب في عمليات التغيير المتوالية التي دخلت على عنوان الدراسة، سواء من حيث اختيار الفترة التي تبدأ بدخول الإنجليز العسكري إلى مصر عام 1882 وما مثله من تحول في تركيبة المثقفين المصريين وتوجهاتهم، وتنتهي بما آلت إليه ثورتهم الوطنية الكبرى عام 1919، أو من حيث تركيز المنظور على الترجمة الأدبية بدلا من الترجمة عمومًا، والترجمة إلى العربية وحدها بدلا من الترجمة منها وإليها، أو التركيز على حالة مصر، والحرص على بقاء كلمة “مصر” في عنوان الدراسة، بعد أن أسقط مجلس الكلية الكلمة من العنوان.
خيري دومة
ورأى دومة أن في الدراسة قيما باقية تبرر اليوم نشرها ورصد أهم هذه القيم الباقية، أولاً: ما رسمته من أساس تاريخي واجتماعي وثقافي لتطور حركة الترجمة، ومعها حركة الأدب والثقافة العربية الحديثة؛ فالدراسة، مع أنها تبدأ رسميًّا من عام 1882، أي عام الاحتلال الإنجليزي لمصر، تعود في فصلها الأول التمهيدي للفترة السابقة لترى أصول حركة الترجمة الأدبية، ومحركاتها والعوامل الفاعلة المؤدية إلى نشوئها وتطورها.
في الصفحة الأولى من ذلك الفصل الأول، ومن الرسالة كلها تقول لطيفة الزيات: ولكي تنشأ حركة ترجمة الأدب في مصر كان لا بد أولاً من وجود طبقة من المتعلمين تعليمًا غربيًّا تتقبل الآثار الأوروبية ويجيد أحد أفرادها لغة أوروبية يتمتعون بالقدرة على تذوق أدب هذه اللغة قبل نقله إلى اللغة العربية.
وكان لا بد ثانيًا من أن يكون لهذه الطبقة من سعة النفوذ ما يمكنها من أن تكون من أفرادها وممن تستطيع أن تجذب إلى دائرتها، جمهورًا قارئًا للأدب الغربي المترجم.
وكان لا بد ثالثًا من تطوير وسائل النشر كالمطابع والجرائد، وخروجها من الدائرة الرسمية إلى الدائرة الشعبية أي من يد الدولة إلى يد الأفراد. ولم تتطور هذه الظروف الملائمة لنشأة حركة ترجمة الأدب إلا في أعقاب سنة 1870. وحين نشأت هذه الحركة تحكمت الظروف التاريخية في نشأتها، وشكلت إلى حد كبير تطورها فيما بعد.
ولن تتخلى لطيفة الزيات أبدًا عن ذلك الأساس التاريخي والاجتماعي المفسر لحركة الترجمة الأدبية في مصر؛ فكل محطة أو تطور جديد كان محكومًا باحتياجات اجتماعية وجمالية وتاريخية لجمهور القراء في مصر ولمتطلبات النشر ولتوجيه السلطات أحيانًا. ولعل من المفيد أن نقول بأن ما أرسته لطيفة الزيات من أسس لدراسة التاريخ الأدبي والثقافي لمصر الحديثة، قد ترك أثره على من مضوا في الطريق بعدها، خصوصًا عبدالمحسن بدر في رسالتيه عن تطور الشعر في الماجستير 1957، وعن تطور الرواية العربية الحديثة في الدكتوراه 1963.
ثانيًا: ما قدمته لطيفة الزيات من معلومات وتحليلات وربما اكتشافات حول مترجمين وترجمات مجهولة، مثل ما قدمته من تحليل لترجمة أحمد عباس علي لرواية دانيال ديفو “روبنسون كروزو” عام 1923، وما قدمته من كشف لأهمية ترجمة محمد عفت لمسرحية “ماكبث” لشيكسبير التي ترجمها عفت بالشعر الموزون المقفى، ونشرتها مطبعة المقطم عام 1911، وهي ترجمة تكشف عن قدر كبير من التفوق في تطويع الشعر العربي لكلام الشخصيات المسرحية تعبيرًا عن انفعالاتها وصراعاتها، بما يقتضيه ذلك من تلوين في النغمة وفي نوعية اللغة.
ثالثًا: ولعل أهم ما طرحته في هذه الدراسة هو ما أخذه عنها عبدالمحسن بدر من حقائق وتحليلات ترتبط بما أسماه هو “رواية التسلية والترفيه”، خصوصًا الدوريات والسلاسل التي لعبت دورًا كبيرًا في نشر هذه النوعية من القصص والدعاية لها؛ فقد قدمت لطيفة الزيات تعريفًا بحوالي 30 دورية وسلسلة قامت على الترويج لهذا النوع من القصص المترجم.
في الفصل الأول من الدراسة أوضحت لطيفة الزيات “عندما جاء الاحتلال البريطاني إلى مصر وجد ظروفًا مكنت من بدء حركة لترجمة الأدب، وهيأت لإمكان استمرارها، وكان من بينها وجود طبقة وسطى متعلمة تعليمًا غربيًّا، ومن الطبيعي أن تلجأ إلى القراءة في وقت فراغها، وصحافة شعبية تعبر عن هذه الطبقة وتهيئ مجالاً لنشر القصص على صفحاتها، ومطابع خاصة يملكها الأفراد، وعدد من المترجمين المصريين يجيدون الفرنسية، وسبق لهم بالفعل أن نقلوا بعض آثار الأدب الفرنسي إلى اللغة العربية. على أن هذه الظروف لم تكن تبشر بإمكان نشأة حركة للترجمة عن الأدب الإنجليزي، وخاصة في المرحلة الأولى من مراحل الاحتلال الإنجليزي، أي في الفترة ما بين 1882 إلى 1900 .
وأضافت “أدرك كرومر ممثل الاحتلال الإنجليزي لأول وهلة، أن الفرنسيين قد أمضوا نصف قرن ينشرون لغتهم بكل الوسائل قبل الاحتلال البريطاني، بينما ظلت الحكومة البريطانية خاملة لا تبذل جهدا في تعليم المصريين. وبدأ الإنجليز بمحاولة إحلال الإنجليزية محل الفرنسية كلغة أجنبية في المدارس المصرية بمختلف مستوياتها. ومن 1881 حتى 1898 ازداد عدد تلاميذ المدارس الأميرية، الذين يدرسون اللغة الإنجليزية من 1063 تلميذًا إلى 3859 تلميذًا، أي من 26% إلى 67% من المجموع الكلي للتلاميذ، في حين أن عدد الذين يدرسون الفرنسية قد نزل من 2994 تلميذًا إلى 1881، أي من 84% إلى 23% من المجموع الكلي.
وأدخل الاحتلال دراسة الأدب الإنجليزي في المدارس الخالية، وقررت نظارة المعارف تدريس مختلف المواد الدراسية باللغة الإنجليزية ابتداء من سنة 1881. وتنبه المصريون إلى خطورة هذا الإجراء، فقامت قيامة الصحف في أوائل القرن تطلب الرجوع إلى التعلم باللغة العربية، وزاد ضغط المصريين واضطر الاستعمار الإنجليزي إلى الرضوخ، وابتدئ في تحويل التعليم من الإنجليزية إلى العربية في المدارس الابتدائية من سنة 1908، ولم يأت عام 1912 حتى صار التدريس في جميع المدارس الابتدائية باللغة العربية، بعد أن استمرت محنة دامت عشرين عامًا.
ورأت الزيات أن هذه المحاولات لم تكن لتثمر ما بين يوم وليلة، إذ لم تكن في مصر فئة من المصريين تجيد الإنجليزية، وتستطيع نقل الأدب الإنجليزي إلى العربية، إلا في أوائل القرن العشرين، أي بعد مضي قرابة عشرين سنة على بدء الاحتلال الإنجليزي، ولكن من الممكن أن نؤرخ لبدء حركة النقل عن الأدب الإنجليزي ببدء هذه الفئة من المصريين لنشاطها في مطلع القرن العشرين، لولا تدخل عامل أجنبي جعل حركة النقل عن الأدب الإنجليزي تبدأ في مطلع الاحتلال الإنجليزي”.
وأكدت أنه إذا كانت الثقافة الإنجليزية لم تزحف على مصر قبل الاحتلال الإنجليزي، فقد استوطنت في بيروت منذ 1886، ممثلة في الكلية الأميركية التي راحت تعد جيلاً متمكنًا من اللغة الإنجليزية، ومتشبعًا بثقافتها، وتترجم من الكتب المدرسية ما يهيئ لها الاستمرار في سياستها التعليمية.
فإذا قاربنا 1880 وجدنا نهضة أدبية مركزها سوريا ولبنان، فلم تبلغ الآداب العربية في القرن التاسع عشر كله ما بلغته في حقبته الأخيرة، فإنها أصبحت إذ ذاك كالشجرة التي بسقت أنباتها واستقرت في قاع الأرض أصولها، فلم تعد ترهب الأنواء أو تكترث لزعازع الرياح، وكان الفضل الأكبر في إنجاز هذا المشروع العظيم لبلاد الشام، وخصوصًا لبيروت التي أضحت كمركز دائرة الآداب، تجتذب إليها زهرة الشبيبة من أنحاء سوريا ومصر والعراق فتغذيهم بأفاويق العلوم.
غير أن إدارة المعارف في الآستانة أخذت تنشئ القوانين الصارمة لتقييد حرية المطبوعات، ولم تزل تضايقها شيئًا بعد شيء حتى بلغت في ضغطها حدًّا لا يكاد يتصوره غير الذين قاسوا مضضه. وبدأت وفود اللبنانيين والسوريين ترد إلى مصر، وخاصة نصارى الشام “… الذين لم يجدوا في وطنهم ما رغبوا فيه من سعة الحال وبسطة العيش والحرية المعتدلة، فهاجروا إلى مصر ليتمتعوا فيها بحضارتها تحت نظارة بريطانيا العظمى”.
وأوضحت أن هذا الفريق من المهاجرين قد جاء إلى مصر وهو الذي تولى أساسًا حركة الترجمة عن الأدب الإنجليزي في أوائل عهد الاحتلال.
(ميدل ايست أونلاين)